تقارير اقتصادية للبيع..! - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 1:43 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تقارير اقتصادية للبيع..!

نشر فى : الإثنين 8 مايو 2023 - 7:30 م | آخر تحديث : الإثنين 8 مايو 2023 - 7:30 م

الجميع تشغلهم أوضاع الاقتصاد فى مصر، حتى إن جميع التقارير الصادرة عن وكالات التصنيف الائتمانى وبيوت الخبرة المالية وبنوك الاستثمار العالمية، وحتى الحطّابين فى الجبال النائية والعجائز حول نار المدفأة فى ليالى الشتاء! كلهم أصدروا تقارير محبطة، تحذّر من تعثّر خطى الإصلاح فى مصر. ليس مستغربا على بلد هام مثل مصر أن تكون هذه حال الاهتمام بشئونه الاقتصادية، لكن الغريب أن الوضع الاقتصادى العالمى يعكس سياقا أكثر خطورة من مجرد تأخّر بيع بعض الأصول الحكومية المصرية أو تلك المملوكة لمختلف مؤسسات الدولة، أو بدء ظهور سوق موازية للدولار الأمريكى فى الأسواق.
فموجة التشديد النقدى (رفع أسعار الفائدة المصرفية) مازالت مستمرة فى الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ورائها مختلف دول الخليج العربى التى تعمد إلى تثبيت عملاتها مقابل الدولار الأمريكى. وهذا التشديد الذى يأتى متأثرا ببيانات التوظيف والتضخم الأساسى، يعنى مزيدا من مخاوف التباطؤ الاقتصادى العالمى وانخفاض فرص التشغيل وتراجع أسعار النفط، وارتفاع تكاليف التمويل بصورة مربكة لكافة بدائل الاستثمار... كذلك تعرّض مصرف جديد فى الولايات المتحدة للفشل، وهو بنك «فيرست ريبابليك» الذى يعد ثالث بنك يواجه تعثّرا خلال أسابيع قليلة، مهددا القطاع المصرفى كله بمخاطر متصاعدة، تعيد إلى الأذهان مخاطر الأزمة الاقتصادية الكبرى فى عامى 2007ــ2008. وفى الخلفية من هذا السياق البائس، هناك تطورات غاية فى الخطورة على صعيد الصراع الروسى ــ الأوكرانى، بعدما تعرّض الكرملين ذاته لهجوم تم تصنيفه كمحاولة اغتيال فاشلة للرئيس الروسى، وتبرّأت منه أوكرانيا والولايات المتحدة، لكن الأخيرة لم تسلم من اتهام مباشر عنيف من روسيا الاتحادية يصمها بالوقوف خلف هذا التصعيد، بل وتتلقى تحذيرات من استخدام أراضى فنلندا المنضمّة حديثا إلى حلف الناتو فى أى عمل عسكرى ضد روسيا.
• • •
بالطبع لا أستريح إلى الركون إلى الأوضاع العالمية لتبرير تطورات الوضع الداخلى للاقتصاد المصرى، فهناك الكثير من العوامل الهيكلية التى تقف خلف العثرة المالية فى مصر. تلك العوامل يمكن تلخيصها فى عجز داخلى (فى الموازنة العامة) وآخر خارجى (فى ميزان المدفوعات) مزمنين. تمويل هذين العجزين ظل لسنوات يعتمد على الديون (خاصة منذ عام 2005 الذى تخلينا فيه عن القاعدة الذهبية للدين الخارجى والتى كانت تشترط إنفاق القروض على مشروعات استثمارية ذات جدوى بشكل حصرى). الآن وبعد التوسّع فى الاستدانة، وما نشأ عنها من تراجع فى التصنيف الائتمانى لمصر، أصبح اللجوء إلى مزيد من الديون والمساعدات لتمويل العجزين يأتى بتكلفة عالية للغاية تعكس مخاطر الدين. وتلك التكلفة عادة ما تتجلّى فى صورة تأمين على القروض ضد مخاطر التعثّر أو فائدة مرتفعة على الودائع لتعويض المستثمر (الدائن) عن جانب من مخاطره.
الحديث المنتشر عن ضرورة تمويل العجز (خاصة الخارجى) بزيادة الإيرادات الدولارية هو حديث منطقى، لكن الأولى فى الأجل القصير، والذى نجد أنفسنا فيه بين مطرقة المؤسسات الدائنة وسندان احتياجات السوق المحلية التى يعتصرها التضخم الناتج بشكل كبير عن الندرة الدولارية، أن يتم التعامل مع العجز بمزيد من «الضبط المالى»، والذى يتلخّص فى خفض الإنفاق العام، باعتباره ضرورة ملحّة وأكثر فاعلية من زيادة الإيرادات، سيما إن كانت الإيرادات التى يراد زيادتها تأتى من جيوب المواطنين، الذين يعانون بالفعل من تصاعد الأزمة الاقتصادية. كذلك يساهم المواطنون فى ضبط الإنفاق العام من خلال ارتفاع أسعار الخدمات والمنافع العامة، متى كان ذاك الارتفاع مبررا بخفض أو إلغاء الدعم. غير أن الضبط المالى يتحقق بشكل كبير إذا تعاملت الحكومة مع الأزمة الاقتصادية بمسئولية من يدرك أن الاستمرار فى الإنفاق على مشروعات كثيفة رأس المال وكثيفة المكوّن الدولارى وبطيئة العائد فى آن هو خيار لم يعد مناسبا لتلك المرحلة. لا أقول هذا ترديدا لما أعلنته مديرة صندوق النقد الدولى بخصوص المشروعات القومية وحسب، بل قلته فى غير موضع وقبل أن يعلنه الصندوق فى بيانات رسمية وأحاديث إعلامية. وإذا كانت استجابة الحكومة لتلك النداءات قد انعكست على تصريحات صادرة عن السيد رئيس مجلس الوزراء المصرى، يؤكد خلالها تأجيل المشروعات ذات المكوّن الدولارى، إلى جانب حزمة من الإجراءات التقشفية الأخرى، فإنه من الضرورة بمكان أن تصدر الحكومة بيانا وافيا عن المشروعات التى توقّفت أو التى تم إرجاؤها، فضلا عن التصريح بقيمة الوفر المتحقق من هذا التوقّف أو الإرجاء. هذا النوع من البيانات يمكن أن يرسل إشارات طمأنة للمؤسسات الدولية والمستثمرين الجادين، لاستمرار التعامل مع مصر بضخ مزيد من الأموال فى الأسواق والنظام المصرفى، حتى وإن كان جانبا من تلك التدفقات هو محض أموال ساخنة.
لكننى وإن كنت على قناعة بضرورة الضبط المالى والتحرّك السريع للتعامل مع عجزى الموازنة وميزان المدفوعات، مع الإفصاح المناسب عن تلك التحرّكات حتى لا تكون مجرد تصريحات، فإننى لا أخفى الاشتباه فى كثير من التقارير الدولية أو فى حدة النبرة التى تتبناها تلك التقارير وتواترها، كونها تخفى طمعا عظيما فى عائدات أكبر على استثمارات عملائها، من خلال مزيد من الرفع فى أسعار الفائدة، وخفضا كبيرا (ومستمرا) فى قيمة العملة الوطنية مقابل العملات الصعبة، حتى يحصل المستثمر الأجنبى على جائزة معتبرة من مجرد إنفاق دولار واحد فى أى أداة استثمار (أسهم أو سندات أو أذون خزانة..) هذا أيضا ما ينتظره الكثير من المستثمرين العرب، حينما أعلنت الصناديق السيادية والأفراد والمؤسسات العربية الأخرى عن تمهّلها فى اتخاذ أى قرارات بشأن الاستثمار فى مصر، فمن الطبيعى أنك حينما تكون فى انتظار موسم التخفيض (الأوكازيون) ألا تتسرّع فى الشراء أو البيع، وهذا الجمود هو أحد أسوأ الأمراض التى يمكن أن تضرب الأسواق. ولا يكفى للخروج من حالة الجمود أن يعلن البنك المركزى المصرى عن أن الجنيه فى حالة تعويم فعلا، أو أنه جاد فى مرونة حركة الجنيه أمام الدولار، إذ إن تبنّى سياسة الربط المرن (التى قلت غير مرة أننى على قناعة بأنها السياسة التى نتبناها منذ تولى الإدارة الجديدة للمركزى) تستلزم توافر احتياطات كبيرة من النقد الأجنبى يمكن أن تستخدم عند الضرورة لإحداث توازن لسعر الصرف عن مستويات منطقية، تحقق نوعا من استقرار سعر صرف الجنيه، حتى لا يكون التراجع مستداما ودون أرضية floor أو حد أدنى واضح.
• • •
لكن احتياطى النقد الأجنبى فى مصر يعكس وضعا مختلا (مزمنا كما ذكرنا) وينطوى على نوع من عدم تماثل المعلومات Asymmetric Information يستغله السوق ضد الجانب المصرى باستمرار. ولتوضيح حال عدم التماثل فى المعلومات، فإن المقصود منها أن مختلف أطراف السوق محليا ودوليا يعرفون احتياجات مصر من الدولار لتمويل خدمة الدين الخارجى وفاتورة الاستيراد المتزايدة وخاصة من مستلزمات الإنتاج، لكن البنوك ومن ورائها البنك المركزى المصرى لا ولن تتوافر لديها ذات المعلومات عن حجم احتياج أطراف السوق من العملات الصعبة، الأمر الذى يعطى أفضلية مطلقة لتلك الأطراف على المفاوض المصرى، وتتعاظم تلك الأفضلية خلف تصريحات بعينها يعلن من خلالها الطرف المصرى عن حاجته إلى أموال قبل تاريخ معين، وأن تدبيرها لن يتم إلا من خلال قناة بعينها! كما أعلن أخيرا عن حاجتنا إلى بيع أسهم فى شركات عامة بقيمة 2 مليار دولار قبل شهر يونيو القادم.
لكن حتى هذا الاشتباه فى تواطؤ التقارير الدولية لا يعُفى تماما من مسئوليته بعض صانعى القرار المصريين الذين بإمكانهم وحدهم صناعة شبكة من العلاقات والمصالح المشتركة، التى تضمن تصدير صورة أكثر تفاؤلا عن الواقع المصرى، ولا أقول صورة كاذبة أو حتى منمّقة. الاستثمارات أيا كان شكلها لن تأتى بدافع من المحبة أو التقدير لمصر فقط! ولكن تأتى متى وجدت مصلحة طويلة الأجل فى الوجود فى مصر، ومتى أدركت أن تأخرها عن الدخول هو بمثابة فرصة ضائعة لن تعوّضها مستقبلا إلا بتكلفة متزايدة، وتلك قناعة لا يصنعها إلا كفاءات محترفة، يجب أن تتصدّر المشهد وأن تتولّى مسئولية الملف الاقتصادى فى أقرب وقت.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات