رحل عن عالمنا مؤخرا أحد أهم الشخصيات التى لعبت أدوارا إيجابية متعددة ومتنوعة فى التاريخ الحديث والمعاصر للمغرب الشقيق وللأمة العربية جمعاء، فى أكثر من مجال وعلى أكثر من صعيد، وهو الراحل الكبير السيد عبدالرحمن اليوسفى، رئيس الوزراء الأسبق للمغرب وأحد القادة التاريخيين لواحد من أهم الأحزاب السياسية المغربية وهو حزب الاتحاد الاشتراكى للقوات الشعبية. ولا شك أن هذا الرحيل يمثل خسارة كبرى للشعب المغربى الشقيق وللشعب العربى بأسره، ولكنه سيبقى خالدا فى الذاكرة الجماعية المغربية والعربية بفعل ما قدمه لشعبه ووطنه وأمته.
وعندما سافرت لاستكمال دراساتى العليا فى مدينة جنيف السويسرية فى منتصف عقد الثمانينيات من القرن العشرين، كان لى الحظ أن أكون ضمن مجموعة من الطلاب العرب من جنسيات مختلفة، منا المصريون والتونسيون والجزائريون والعراقيون والفلسطينيون واللبنانيون والمغاربة، وكنا جميعا نتابع دراساتنا العليا فى العلوم الاجتماعية والإنسانية فى عدد من المؤسسات الأكاديمية المتواجدة فى المدينة السويسرية فى ذلك الوقت. وكان من حسن طالع هذه المجموعة أنها كانت تلتقى فى بعض الأحيان بشكل غير رسمى وفى سياق ودى فى بعض مقاهى مدينة جنيف مع شخصيتين من أكثر الشخصيات العربية شعبية وجماهيرية وتأثيرا فى التاريخ العربى الحديث والمعاصر، وهما الراحلان الكريمان الرئيس الجزائرى الأسبق أحمد بن بيللا والسيد عبدالرحمن اليوسفى، حيث كان الأول والسيدة زوجته مقيمين فى سويسرا فى تلك الفترة بينما كان الأخير كثير التردد على مدينة جنيف آنذاك.
وكان الحديث فى تلك المناسبات يمتد إلى مختلف القضايا التى كانت تمثل هواجسا للشباب العربى ولكل من كان لديه وعى بالشأن العربى العام فى تلك المرحلة التاريخية المهمة من التاريخ العربى، فكان النقاش والحوار يشمل قضية العرب الأولى: فلسطين، ومسألة الوحدة العربية ولماذا تعثرت جهود تحقيقها، بنفس القدر الذى كانت تشمل فيه قضايا الحريات والسعى نحو الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتحديات تحديث المجتمعات العربية فى إطار صياغة نابعة من خصوصيات واحتياجات وظروف المنطقة العربية وتاريخها وثقافتها وطبيعة مجتمعاتها وتركيبتها، وبما يحقق الوصفة السحرية المطلوبة فى الجمع بين الأصالة والمعاصرة. كما امتد النقاش وقتها لموضوعات مثل ظاهرة الزعيم السوفيتى الأخير «جورباتشوف» والذى كان حينذاك فى بدايات عهده يبشر بتجديد الماركسية اللينينية من داخلها عبر طرحيه الفكريين الشهيرين «الجلاسنوست» و«البريسترويكا»، وكانت هناك الكثير من التكهنات حول مستقبل الحرب الباردة القائمة على أشدها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومن ثم العديد من السيناريوهات المطروحة بشأن مستقبل النظام الدولى ككل.
وكانت تلك اللقاءات بمثابة عامل إثراء لتلك المجموعة من الشباب العربى، كما كانت المناقشات والحوارات تفتح آفاقا أوسع للنشاط الفكرى والذهنى، وأزعم أنها ساهمت، ضمن عوامل أخرى، فى تجاوز الكثير من هؤلاء الشباب لحدود ضيقة للتفكير ولثوابت نشأ البعض عليها وتربى البعض الآخر فى ظلها لسنوات دون الجرأة على طرحها على طاولة الجدل والنقاش وتعريضها للبحث والتمحيص، وذلك قبل الوصول إلى رحلة الانتقال إلى أوروبا لاستكمال دراساتهم العليا بها.
وإذا عدنا إلى استعراض المسيرة النضالية للراحل الكبير عبدالرحمن اليوسفى على الصعيد الوطنى المغربى، نجد أنه بدأ مبكرا فى النضال لتحرير وطنه المغرب من الاحتلال الفرنسى، وقد تعرض للسجن أكثر من مرة كما تعرض للنفى، وخلال وجوده فى إسبانيا كان عليه من جهة عبء توفير السلاح اللازم الذى يحتاجه المقاتلون من أجل الحرية داخل الأراضى المغربية، كما كان عليه من جهة أخرى تدبير كيفية تهريب هذا السلاح إلى الداخل المغربى، وأجاد بدرجة كبيرة فى هذه المهمة، وهو الامر الذى أكسبه الكثير من الشهرة فى صفوف الشعب المغربى منذ تلك المرحلة المبكرة. وكان للتضحيات التى قدمها عبدالرحمن اليوسفى وغيره من المناضلين المغاربة، بالإضافة إلى تضحيات السلطان، فيما بعد الملك، محمد الخامس فى ذلك الوقت، المردود الإيجابى الذى تمثل فى حصول المغرب على استقلاله الوطنى.
وفى مرحلة ما بعد الاستقلال، كان اليوسفى ضمن مجموعة من المناضلين المغاربة، والذين تحولوا بعد تحقيق الاستقلال إلى ساسة، قامت بتأسيس حزب الاتحاد الوطنى للقوات الشعبية، كحزب غير تقليدى ومن نوع جديد وراديكالى عام 1959 فى مغرب ما بعد الاستقلال، وكحزب منشق عن حزب الاستقلال الذى قاد النضال الوطنى لتحقيق الاستقلال، وكان من أهم المشاركين فى تأسيس ذلك الحزب الزعيم المغربى والعربى والعالم ثالثى الراحل الشهيد المهدى بن بركة. وكان الراحل عبدالرحمن اليوسفى أحد القادة فى بلدان العالم الثالث المستقلة حديثا فى ذلك الوقت الذين أدركوا منذ مرحلة مبكرة من بعد الاستقلال أن الاستقلال الوطنى والديمقراطية السياسية لا تكفيان وحدهما لشعوب الجنوب، بل يجب أن يجتمعا فى حزمة واحدة مع نزعة تقدمية تجاه المسائل الاقتصادية والاجتماعية توفر اعتبارات العدالة، وكان من نتيجة ذلك انتقال اليوسفى ليكون من قادة حزب يسارى جديد آخر انشق عام 1974 عن الاتحاد الوطنى للقوات الشعبية، وهو الاتحاد الاشتراكى للقوات الشعبية بقيادة الراحل عبدالرحيم بوعبيد، وهو الحزب الذى طرح نفسه كبديل يسارى للحكم السائد القائم فى المغرب فى عهد الملك الراحل الحسن الثانى، والذى كان حكمه قد ارتكز لسنوات، بل لعقود، على الاعتماد على تشكيلة من أحزاب الموالاة، دون تغيير جوهرى يذكر. وتولى اليوسفى زعامة الحزب بعد وفاة بوعبيد فى مطلع تسعينيات القرن العشرين.
ونتيجة لاقتصار الحكم على أحزاب اليمين والوسط حتى نهاية التسعينيات من القرن الماضى، فقد تعرضت قوى اليسار المختلفة فى المغرب إلى الملاحقة، وتعرض عبدالرحمن اليوسفى شخصيا لحكمين غيابيين بالإعدام فى عهد الملك الراحل الحسن الثانى، وقضى سنوات طويلة فى المنفى خارج بلاده وظل رغم كل شىء متمسكا بخياراته بشجاعة ومسئولية. وعندما أحس الملك الحسن الثانى بتقدم مرضه وبدنو أجله، أدرك بحسه السياسى المخضرم أن المغرب تحتاج لرئيس وزراء وطنى وقوى ويحظى باحترام الطبقة السياسية وبحب الشعب المغربى، بما يمهد لانتقال سلمى وسلس للحكم إلى ولى عهده الأمير، الملك فيما بعد، محمد السادس، فكان أن قرر الملك الراحل الحسن الثانى اتخاذ قرار غير مسبوق بالنسبة له وهو إجراء مصالحة تاريخية مع اليسار المغربى وإصدار عفو عن عبدالرحمن اليوسفى واستقباله فى المغرب وتكليفه بتشكيل الحكومة فى ابتعاد تام عن سياسة الاعتماد على أحزاب الموالاة وفى جلب اليسار إلى رئاسة الحكومة لأول مرة فى عهده.
واستمر اليوسفى فى رئاسة الحكومة وتحقق التحول السلمى بعد وفاة الملك الحسن الثانى إلى ولى عهده الذى صار الملك محمد السادس، وفى عام 2002 عندما قرر الملك الجديد سحب تشكيل الحكومة من اليوسفى، رغم أن حزبه والأحزاب المؤتلفة معه هى التى كان لديها الأغلبية البرلمانية، قرر اليوسفى رحمه الله اعتزال الحياة السياسية، وإن أصدر بعد ذلك مذكراته فى ثلاثة أجزاء، كما أنه استمر يحظى، حتى وفاته، بشعبية واحترام كبيرين لدى كل المغاربة من جميع الأطياف والتوجهات وعلى جميع المستويات.