كانت مفاجأة كبيرة بالنسبة لى أن اسم جمال عبد الناصر ما يزال يتردد بكل خير فى العديد من البلدان الإفريقية، رغم أنه رحل عن عالمنا قبل 56 عاما فى 28 سبتمبر 1970.
كنت أعتقد أن من يتذكرون عبد الناصر هم من كبار السن، الذين ابتعدوا عن العمل العام، ويذكرون له أنه بذل جهدا كبيرا فى دعم حركات التحرر الإفريقية حتى نالت استقلالها وكان صديقا لقادة القارة الكبار مثل نكروما وسيكاتورى ونيريرى، لكن المفاجأة فى الأسبوع قبل الماضى حينما رافقت وزير الخارجية المصرى الدكتور بدر عبد العاطى فى جولته فى ست دول إفريقية هى تشاد ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالى والسنغال، هى أن العديد من المسئولين وبعضهم ولد بعد وفاة عبدالناصر، ما يزال يتحدث عنه بكل تقدير.
سمعت وزيرة ثقافة السنغال ديين غاى تتحدث عن عبد الناصر بكل تقدير واحترام، خلال احتفال حضره بدر عبد العاطى لتقديم مستنسخ مومياء وتابوت توت عنخ آمون. ونفس الأمر من وزيرة الخارجية ياسين فال خلال عشاء عمل مع وزير خارجيتنا.
وخلال الزيارة لكل من النيجر ومالى وبوركينا فاسو فإن اسم عبد الناصر عاد بقوة مع التغيرات الدراماتيكية التى وقعت فى البلدان الثلاثة، وأدت إلى ما يشبه القطيعة مع الولايات المتحدة وفرنسا والغرب. المسئولون فى هذه البلدان ينظرون باحترام لتجربة عبدالناصر فيما يتعلق بنقطة جوهرية. وهى أنه فهم جيدا المطامع الاستعمارية فى بلده وقارته، ولذلك تصدى لها.
قد تكون نظرة بعض هؤلاء شديدة العاطفية، فما كان يمكن حدوثه فى الخسمينيات والستينيات لم يعد ممكنا حدوثه اليوم، خصوصا مع ثورة الاتصالات والحاجة للشراكة مع العالم، وعدم القدرة على العيش فى عزلة.
خلال مقابلتى مع بعض مسئولى شركة "المقاولون العرب" فى العديد من العواصم الإفريقية، قالوا بوضوح إن اسم عبد الناصر ما يزال له مفعول السحر لدى عدد كبير من الأفارقة ليس فقط بوضع تماثيل له فى الشارع مثلما هو الحال فى الجزائر وغانا وتنزانيا، وكذلك تسمية العديد من الشوارع والميادين باسمه.
على سبيل المثال سمعت حكاية ذات مغزى، هى أن دولة غينيا بيساو شهدت انتشار وباء خطير فى أوائل الستينيات، وطلبت النجدة من العديد من الدول الأوروبية التى رفضت تقديم المساعدة، وأصرت على ضرورة إرسال ثمن الأدوية والعقاقير أولا، وهو ما لم يكن متوافرًا وقتها. وحينما علم جمال عبد الناصر بالمشكلة، سارع بإرسال طائرة محملة بالأدوية مما كان له أكبر الأثر فى إنقاذ حياة الكثيرين، بمن فيهم أقارب كبار المسئولين وأبناؤهم وأحفادهم وقتها. هذا التصرف النبيل لم تنسه غينيا بيساو أبدا، وحينما كانت هناك مناقصة لإنشاء مشروع، فإن الحكومة قررت إسناد المشروع لشركة مصرية تكريما لاسم ودور جمال عبد الناصر.
ما يزال العديد من الأفارقة يتذكرون دور مصر فى دعم حركات التحرر الوطنى، وتخصيص مكاتب لها فى شارع طه حسين بجاردن سيتى بالقاهرة لممارسة عملها. وكذلك مقر الجمعية الإفريقية فى الزمالك، التى كان يتوافد ويتقاطر إليها كبار قادة حركات التحرر، الذين صاروا رؤساء ومسئولين فى بلادهم فيما بعد، وبالطبع نتذكر الزعيم الجنوب إفريقى الكبير نلسون مانديلا الذى زار مقر الجمعية وأصر على مقابلة محمد فائق الذى كان مسئول الاتصال مع هذه الحركات والتنظيمات.
هل كلامى السابق يعنى أن الأمور جامدة وأننا لا نحتاج لبذل جهد، بل نعتمد فقط على هذه الذكريات؟
الإجابة لا، فالدنيا فعلا تغيرت إلى حد كبير، والدرس المهم أن ما فعله عبد الناصر ومصر فى الماضى يدل على أن الأفارقة يقدرون من يتعامل معهم باحترام وأخوة وإنسانية، من دون أى تكبر أو غطرسة. القضية ليست تقديم أموال أو دعم فقط بل إحساس حقيقى بالأخوة الإفريقية. والحمد لله أن الرئيس عبد الفتاح السيسى يدرك هذا الأمر جيدا، كما رأيت بدر عبد العاطى خلال الجولة الأخيرة يتعامل مع كل من قابلهم من مسئولين بحميمية وأخوة صادقة. علينا أن نستلهم هذا الدرس من الماضى، لكن نعمل بكل جهد وقوة من أجل المستقبل وبشروط المستقبل وأدواته ووسائله.
المهم أن نعى الدرس.. الظروف تغيرت الآن، على الدولة أن تستفيد من هذا الإرث الكبير على أن نترك القطاع الخاص يتولى الجزء الأكبر من هذه المهمة.