انعقدت الأيام الثلاثة الماضية النسخة السادسة من سلسلة معارض «طلال تاريخ تقرأه الأجيال» بمكتبة الإسكندرية، والتى صاحبتها عدد من الفعاليات، بحضور نجله الأمير عبد العزيز بن طلال بن عبد العزيز آل سعود رئيس المجلس العربى للطفولة والتنمية، وعدد من المسئولين، الحاليين والسابقين، والشخصيات العامة، والثقافية، فى حضور ومشاركة الدكتور أحمد زايد مدير المكتبة.
ويعد المشروع التنموى للأمير طلال بن عبد العزيز متفردا فى شكله ومضمونه، جسد فكر الاستدامة فى التنمية، قبل أن يظهر مصطلح التنمية المستدامة، ويكتسب صورته الراهنة. ونظرا لأنه رجل دولة، أمتلك وعيا سياسيا وثقافيا عميقا، فقد استطاع أن يشخص مشكلات المنطقة العربية، ويرنو ببصره إلى قضاياها الحقيقية. وقد كان محقا حين ذهب إلى أن التنمية فى تلك البقعة من العالم تحتاج إلى تغيير الذهنية، ووصفها بأنها عملية شاقة تتصل بتغيير البنية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، واعتبر الاهتمام بالطفولة، والتعليم، والمساواة بين الرجل والمرأة، وتمكين الفقراء بمثابة جسر العبور إلى التنمية الحقيقية، وليست التنمية الشكلية أو المظهرية. ورغم أنه نشأ فى السعودية، فى أسرة تمتلك ناصية المال والجاه والسلطة، إلا أنه اهتم بالفقراء، ورأى أن علاج الفقر لا يكون فقط بالمساعدات الإنسانية، ولكن بالتصدى لأصل الداء، وهو الفقر ذاته، من خلال تمكين الفقراء حتى يصبحوا منتجين، فاعلين فى مجتمعاتهم. ويعبر ذلك عن وعى عميق بجذور المشكلات، وأسبابها الجوهرية، وقد امتد وعى الأمير طلال بن عبد العزيز إلى قضايا التنوع فى المنطقة العربية، ليس فقط المساواة فى النوع بين الرجل والمرأة فى دوائر صنع القرار، وريادة الأعمال، والنشاط المجتمعى، ولكن أيضا الانشغال بالمسيحيين العرب، باعتبارهم عنوانا للتنوع فى المنطقة، ودعا إلى وقف نزيف هجرة المسيحيين فى الخارج ولاسيما فى دول عرفت الحضور المسيحى منذ وقت مبكر مثل فلسطين. ولم يكتف الأمير الراحل بالسياقين المحلى والإقليمى، ولكنه سعى إلى المساهمة بجدية فى المؤسسات التنموية العالمية، والمنتديات والمؤتمرات الدولية، وكتب فى قضايا الشأن العالمى منذ وقت مبكر فى ظواهر لم ينتبه إليها البعض فى منطقتنا إلا متأخرًا بعض الشىء مثل حرية التجارة، وتأثير منظمة التجارة العالمية.
أكد الأمير طلال على الشراكة بمعناها الواسع، سواء كانت محلية بين الحكومة والمجتمع المدنى والقطاع الخاص، أو شراكة إقليمية، أو مع مؤسسات تنموية دولية. وعزز ارتباط التنمية بجملة من القيم المهمة، مثل الحوار النقدى، والاستماع الجيد، وحرية الرأى والتعبير، والمواطنة من خلال تعميق المشاركة، والمساواة بين المواطنين، انطلاقا من رؤية عميقة تقترن فيها التنمية بالمواطنة والكرامة الإنسانية، وعلى حد تعبيره: «كرامة الإنسان مرتبطة بحقوقه، فإذا لم تقترن الكرامة مع الحقوق باتت المواطنة منقوصة». ورأى أهمية المؤسسية فى التنمية، باعتبارها أقصر الطرق للدخول فى وعى الفئات المستهدفة بالتنمية، كما ذكر، وفى كل الأحوال تبنى نظرة أكثر تقدما فى التعامل مع النظريات والأفكار الرائجة فى التنمية، ورغم انفتاحه على العالم، ومشاركاته الدولية، فإنه آمن بأن التفاعل مع العالم الخارجى، لا يكون من مقعد المنبهر المستورد، ولا من هامشية المتلقى السلبى، ولكن تعبيرًا عن المساهمة بالفكر، والرؤية، والمشاركة فى تغيير الواقع.
وإجمالًا تكشف هذه التجربة التنموية، التى تجسدت فى عدد من الهيئات والمؤسسات، أن صاحب مشروع التنمية، عندما يكون مثقفًا واعيًا ورجل دولة، ويدرك أبعاد التحديات القائمة، فإنه يستطيع إطلاق مبادرات مبدعة، تهدف إلى تغيير الواقع. فالوعى يسبق التنمية، ويساعد على إدراك التحديات على نحو صحيح، ووضع الحلول للمشكلات بعد تحديد أسبابها الحقيقية أو جذورها العميقة، دون الاكتفاء بالنظر إلى مظاهرها الخارجية أو الشكلية.