ليست أول مرة تُقطع فيها خدمات الفيسبوك، والواتس، والإنستجرام، وبعض المواقع الأخرى. ولكنها المرة الأولى التى يحدث فيها عطل فنى مواكب لهجوم سياسى على الفيسبوك، بسبب شهادة فرانسيس هوجن، إحدى موظفات الشركة أمام الكونجرس الأمريكى. ولقد حملت الشهادة هجوما عنيفا على الفيسبوك، واتهمت الموظفة التى سربت آلاف الوثائق الداخلية إلى صحيفة الوول ستريت جورنال، الفيسبوك بالتقاعس عن حماية المجتمعات، واستخدام خوارزميات ــ لوغاريتمات ــ تساهم فى تأجيج العنف، كمثال فى بورما ضد الروهينجا، وإثيوبيا ضد التيجراى، وتعرض الفتيات لمحتوى ينزع عنهن الثقة بالنفس، وبترويج معلومات مغلوطة أو منقوصة تتسبب فى إفشال الديمقراطية. وهى اتهامات خطيرة تشوه صورة الفيسبوك، وتعزز مسار الهجوم المتواصل عليه. ومن ناحيته، رد مارك زوكربيرج رئيس شركة الفيسبوك على الاتهامات، قائلا بأنها ظنية، وتفتقد إلى المصداقية، وتعتمد على وثائق مجتزأة، أى تعرض جزءا من أبحاث الشركة، ولا تعرض الصورة الكلية. ويدافع زوكربيرج عن الشركة قائلا، كيف نساهم فى تأجيج العنف ومستخدمو الإعلانات ــ وهم أهم مصدر دخل للشركة ــ يرفضون مواكبة إعلاناتهم لأى محتوى يروج للعنف. جاء ذلك فى بوست مطول كتبه زوكربيرج على صفحته الشخصية على الفيسبوك موجها كلامه لزملائه فى الشركة، والتى جاء فيها أنهم فى الفيسبوك يشعرون بالغربة جراء شهادة هوجن، فهى لا تعبر عن حقيقة شركتهم.
تعزز هذه الاتهامات مسارا بدأ أو استفحل منذ عام 2016 أثناء الانتخابات الرئاسية الأمريكية؛ حيث أجمعت 16 مؤسسة أمريكية، تمثل جميع الأجهزة الأمنية والاستخباراتية بالبلاد، أن روسيا أثرت على نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية ورجحت كفة الرئيس السابق ترامب وعصفت بمنافسته هيلارى كلينتون. وكان الفيسبوك أهم منصات التواصل الاجتماعى المستخدمة فى عملية التلاعب الروسية بحسب الرواية الأمريكية، وفعلوا ذلك عن طريق فك شفرة الخوارزميات واستخدامها لترويج فيديوهات نالت من هيلارى ولمعت صورة ترامب لدى جمهور لم يكن من المصوتين التقليديين. وتوالت الهجمات بعدها على الشركة ونادت بوضعها تحت المراقبة، وإصدار قوانين تنظم عمل هذا النوع من مواقع التواصل الاجتماعى. ثم جلس مارك زوكربيرج أمام الكونجرس مرتين للشهادة عن دور الشركة فى أمور كثيرة، منها تسهيل الاعتداء على الديمقراطية، واستخدام منصته للإضرار بسلامة المجتمعات، كما دافع عن لجوء الشركة للإعلانات لتوليد الدخل! كانت الشهادة عام 2019 فى نفس الوقت الذى انضمت فيه هوجن للفيسبوك، وللمفارقة سربت الوثائق بعد سنتين فقط من عملها فى الشركة. فهل كان الوقت كافيا للتطلع على أسرار عمل الشركة وتتخذ قرارا بتسريب جزء منها؟ ثم كان آخر ظهور لمنصة الفيسبوك على مسرح الأحداث السياسية بنهاية رئاسة ترامب؛ حيث اتهم البعض الفيسبوك بتسهيل عملية اقتحام مبنى الكونجرس الأمريكى يوم 6 يناير! وما زال التحقيق جاريا فى تلك الفضيحة التى ألمت بواشنطن. غير أن الفيسبوك اتخذ قرارا سياسيا مع مواقع أخرى للتواصل الاجتماعى على رأسها موقع تويتر بحجب صفحات الرئيس السابق دونالد ترامب. ومنذ ذلك الحين تلاشى ترامب وكأنه لم يكن، فلا الميديا تنقل عنه ولا هو يجد وسيلة للحديث. وكان ذلك مؤشرا على إمكانيات مواقع التواصل الاجتماعى والدور الذى تلعبه.
•••
لكن ماذا عن بلادنا، ماذا سيحدث لو اختفى الفيسبوك تماما من حياتنا وأخذ معه تطبيقاته مثل الواتس والإنستجرام؟ وهو سؤال استكشافى تتباين الإجابة عليه. وقد يكون إيجاد البديل هو نقطة البداية، فاختفاء الفيسبوك سيفتح المجال لمواقع أخرى لتملأ هذا الفراغ، وسيحدث نفس الشىء بالنسبة للواتس آب والإنستجرام. ولكن انتشار الفيسبوك الذى يصل إلى 2,7 مليار مستخدم يجعل صناعة البديل مسألة بحاجة إلى وقت، وهو ليس بالطويل بطبيعة الحال، إذا كان البديل جاهزا! ولنتذكر ماذا جرى لمنصة مثل زووم التى تستخدم فى الاجتماعات (الأونلاين) عبر شبكة الإنترنت، والتى شهدت طفرة غير مسبوقة فى عدد الاجتماعات عبر منصتها بعد جائحة الكورونا، فقفزت من 10 ملايين اجتماع سنوى إلى 200 مليون اجتماع فى أول ربع سنة بعد الجائحة عام 2020. ثم نسأل السؤال الثانى، ماذا سيحدث لعشرات الملايين من الشركات والأفراد الذين يستخدمون الفيسبوك يوميا للبيزنس، لاسيما الأعمال الصغيرة والفردية، ويعلنون عن منتجاتهم ويتواصلون مع عملائهم. ما هو حجم الضرر لهذا الاقتصاد الموازى الجديد؟ وهل تستطيع هذه السوق التوقف لحين بناء سبيل تواصل اجتماعى جديد؟ هل بوسع الجمهورية التى تريد التجدد تطوير بديل محلى مثل موقع «فورى» يوفر خدمات إضافية، ليتحول لمنصة خدمية، ترفيهية، وأيضا تمكن بيزنس الأفراد والشركات الصغيرة؟! ثم سؤال ثالث، عن دور التواصل الاجتماعى فى التنفيس عن الناس، وبالرغم مما يشوب الموقع من تجاوزات، ولكن ماذا سيحدث عندما لا يجد الناس متنفسا لمشاركة أفكارهم، والتعبير عن آرائهم، وهل يدفع هذا إلى التماسك الاجتماعى أم الانفجار؟ هذا ولم نتكلم عن خدمات معلوماتية لا غنى عنها تستند إليها الأجهزة الأمنية فى متابعة الجريمة، والوصول لمرتكبيها، وأحيانا منعها! وسؤال أخير، ماذا ستفعل الحكومات لتعويض الضرائب الجديدة التى تجنيها من وراء منصات التواصل؟
•••
لا توجد إجابات مثالية، والأمر متروك للاجتهاد، وإذا كان هناك من نصيحة لابد منها، فإن أهم مقترح نضعه بين يدى صناع القرار هو نصيحة بتطوير برامج محلية للتواصل الاجتماعى، تنمو مع الزمن، فقد يأتى يوم ونفقد فيه وسائل التواصل الاجتماعى العالمية. وهو ليس بأمر مستبعد، فمن ناحية زيادة الهجمات السياسية على الفيسبوك، توحى بأن ثمة متربصين بالعملاق الأزرق من داخل المؤسسات الأمريكية نفسها! وقد يأتى يوم وتنهار فيه الشركة. أما السؤال غير المتصور، فيتعدى موضوع التواصل الاجتماعى ويمس توقف الشبكة العنكبوتية ذاتها! ماذا سيحدث لو انهار الإنترنت؟ هل بوسعنا تصور عدد الاقتصادات التى ستنهار، والمجتمعات التى ستفقد ثرواتها، والبنوك التى ستتبخر أرصدتها بدون أن ندرى أين ذهبت! وهذا ليس بالأمر المستحيل، بل هو أمر متوقع جدا. وهو من أكبر المخاطر التى تهدد البلدان. وقديما قال أحد المفكرين، إنه لا يعلم ما هو سلاح الحرب العالمية الثالثة، ولكن لو كان هناك حرب رابعة فإن أسلحتها ستكون العصى والحجارة. وما نقوله إن العالم قد يكون مستعدا لأنواع شتى من المخاطر، ولكن ليس من ضمنها انهيار شبكة المعلومات. وحال حدوث ذلك، سيتغير كل شىء!