أضاعوك يا لقمان وأى فتى أضاعوا - سيد محمود - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 2:33 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أضاعوك يا لقمان وأى فتى أضاعوا

نشر فى : الثلاثاء 9 فبراير 2021 - 7:30 م | آخر تحديث : الأربعاء 10 فبراير 2021 - 12:32 م

كنت أظن أن مسألة قتل كاتب أو مثقف بسبب رأيه المخالف لجماعة يعيش بينها مسألة قد انتهت فى عالمنا العربى إلى الأبد، ثم جاءت واقعة مقتل المثقف اللبنانى لقمان سليم الأسبوع الماضى لتكذب هذا الظن وتقول بوضوح إننا لا نزال غارقين فى مستنقع الجهل وأنه لا مكان فى العقل فى بلداننا.
قتل لقمان فى بلد كان فى ماضيه الزاهر يباهى بإيمانه بالتعددية وبقدرته على احتمال الاختلاف الفكرى وإداراته فى أفق يغنى العقل ويساهم فى ازدهاره.
تغير لبنان الذى أحببته وقصمت الحرب الأهلية ظهره، ثم أخذت معها عقولا وأجسادا وقامات فكرية كانت كفيلة بنقل هذا البلد إلى ضفة أخرى غير تلك التى انتهى إليها، ليصبح مجرد مركب غارق فى بحر من الفساد.
قبل لقمان عرف لبنان استشهاد قامات أخرى أبرزها حسين مروة ومهدى عامل وسمير قصير وعلى الرغم من اختلاف المنطلقات الفكرية فى أفكار هؤلاء إلا أن الإيمان بالعقل جمع بينهم، كما جمعتهم الرغبة فى حماية بلدهم من الانزلاق وراء حمى التعصب.
وقبل عدة شهور أشرت هنا إلى تهديدات تلقاها لقمان وعائلته لأنه يتبنى موقفا سياسيا مغايرا لموقف حزب الله ويعبر عن قناعاته بالكتابة وعبر الفضائيات، لكن موقفه لم يكن مقبولا من بعض جماهير الحزب التى حاصرت بيته فى الضاحية الجنوبية ووضعت على سور حديقته ملصقات تقول: المجد لكاتم الصوت وانحازت لخيار الاعلان عن رغبة واضحة فى التخلص منه وحال ضعف الدولة اللبنانية دون إجراء تحقيق جاد يصل لكاتب تلك المنشورات التى كانت ترجمة لأفكار تيار وصف الراحل بأنه من «شيعة السفارات» أى الذين يتلقون تمويلا أجنبيا للحديث بلغة مختلفة عن اللغة التى يتحدث بها حزب الله.
وقد يسأل البعض لماذا تم التخلص من لقمان فى هذا الوقت بالتحديد؟ والإجابة ببساطة: أن أحداث الغضب التى شهدها لبنان قبل موجة كورونا أظهرت أن لقمان لم يعد مجرد فرد وأن أفكاره التى كانت مجرد بذرة قد ازدهرت وأصبحت شجرة فى طريقها لأن تصبح حديقة ومن ثم كان لابد من تجريفها وقطع الطريق على فرصها فى النمو قبل أن تعود الحياة لطبيعتها.
قبل القتل جرب أعداؤه لعبة الشائعات والإساءة إليه بالاتهامات المجانية التى صورته عدوا للبنان واختلقت وثائق وتسريبات لكن الاتهامات زادته إصرارا على المضى فى الطريق الذى اختاره.
تحلى لقمان بصفات كثيرة وعبر عن رأيه بشجاعة بطل درامى آثر أن يدفع الثمن الأكبر ويقبل بنهاية تراجيدية لحياة غنية بالتجارب والخبرات، لم تكن تشبه أى حياة أخرى.
ورث الراحل من والده المحامى والنائب البرلمانى محسن سليم نهمه إلى العمل العام وأمله فى لبنان تعددى وأخذ من أمه المصرية سلمى مرشاق إيمانها العميق بالثقافة وشغفها الذى لا ينتهى بالبحث والتاريخ وظل الأرشيف حجتها الأولى التى دفعت الشهيد لتأسيس مركز أمم الذى اعتنى فيه بجمع أرشيفات الحرب الأهلية لتظل تجربة الحرب ودروسها القاسية ماثلة فى الأذهان.
عرفت لقمان واقتربت منه خلال السنوات الأخيرة بفضل صداقة عميقة تجمعنى مع أمه وشقيقته الكاتبة والناشرة رشا الأمير لذلك فقد اعتبرت غيابه بمثابة فقد شخصى واحتسبته شهيدا من شهداء الكلمة وظل رأيى أن ما خسرته الثقافة العربية لا يعوض، فقد كان بإمكانها أن تربح الكثير، لولا أتيحت بيئة أخرى تحتضن عطاءه الثقافى، فقد امتلك عقلا نقديا فذا وكان طه حسين مثله الأعلى وأراد كما قال لى أن يفعل مثله ويطير بجناحين، الأول جناح يعبر عن معرفته العميقة بالتراث العربى فى عهوده المختلفة والجناح الثانى يعزز الانتماء للثقافة الإنسانية فى أفقها العالمى المعاصر فقد أجاد 3 لغات أوروبية إجادة تامة وترك خلفه رصيدا من الترجمات لأهم شعراء العالم الذين قدمهم لقراء العربية فى وقت مبكر قبل أن يتحولوا لموضات أو ماركات مسجلة مثل باوتسيلان وإميل سيوران.
فى السنوات التى تفرغ فيها لدار الجديد مع شقيقته رشا الأمير وجهت الدار عنايتها بنشر تراثنا المستنير دون أن تغفل عن دعم الأصوات الطليعية الشابة وظلت «الجديد» منبرا من منابر التعددية واحترام العقل.
وغدا يلتقى رفاق لقمان فى حديقة بيته وسأكون معهم، منتميا مثلهم إلى أفكاره متذكرا أن هديته الأخيرة لى كانت كتابا عنوانه: «فى يمين المولى.. التعصب فى ميزان التحليل النفسى» عدت إليه عندما تلقيت نبأ استشهاده وأمامى عبارة فى الكتاب وضعت خطا تحتها تقول: إن الهمجية التى تبرر القتل متربصة عند كل زاوية، وعند كل منعطف. إنها همجية قادرة، بلا رفة جفن، على أن تبيد وأن تقتل، وماذا يستفاد من هذه النماذج من القتل سوى أنها تكرر المكرر، من أنه لا وزن يذكر ولا قيمة، لحياة إنسان فى ميزان فكرة، أو عقيدة تنسب نفسها إلى القداسة».