لا يعرف الكثيرون أن فعل وكلمة assassin قد دخلت إلى اللغات الأوروبية مشتقة من كلمة الحشاشين، وباتت تستخدم طوال تسعة قرون منذ الحروب الصليبية للدلالة على فعل الاغتيال السياسى المدبر أو القتل غيلة بدافع سياسى.
ومرجع ذلك أنه فى عام 1191م وأثناء الحملة الصليبية الثالثة، تعرضت إحدى السفن التى كانت تحمل على متنها بضائع وأموال لتنظيم الحشاشين لعاصفة عاتية جنحت بها عن طريقها وساقتها قبالة سواحل مدينة صور، فأمر القائد الصليبى كونراد دى مونفرات جنوده بالاستيلاء على السفينة ومصادرة حمولتها الثمينة.
على أثر ذلك أرسل زعيم الحشاشين إلى كونراد يطلب منه إعادة السفينة وحمولتها، فرفض كونراد وأجابه بغطرسة ووقاحة، فأصدر زعيم الحشاسين أوامره لاثنين من أتباعه بقتل كونراد جزاء فعلته وتحديه لهم وتطاوله عليهم.
وهكذا وأثناء سير كونراد فى أحد أزقة مدينة صور، قابل اثنين من الرهبان كانا قد انضما لخدمته قبل ستة أشهر، وقد كانا فى حقيقة الأمر اثنان من الحشاشين وقد التحقا بخدمة كونراد وتمكنا من كسب ثقته، فتوقف أحدهما وقدم له رسالة، فلما مد كونراد يده لأخذها، سحب الرجل خنجره وطعن كونراد، أما الثانى فقد وثب على جواد كونراد وعاجله بعدة طعنات، سقط كونراد بعدها صريعًا على الأرض، وبعدها ذاعت شهرة جماعة الحشاشين فى جميع أنحاء أوروبا لاغتيالهم أحد كبار قادتهم، ثم للدور الذى قاموا به طوال فترة الحروب الصليبية.
• • •
ولو كانت عملية الاغتيال تلك قد جاءت فى إطار مقاومة الصليبيين وغزواتهم الوحشية المتوالية على بلاد المشرق العربى فى مصر والشام وفلسطين لأعتبر عملًا بطوليًا، لكن طائفة الحشاشين سلكت نهجًا مخالفًا تمامًا بل نقيضًا لكل عمل يمكن أن يوجه لهؤلاء الغـزاة ومقاومتهم وإجبارهم على الجلاء والرحيل مدحورين منهزمين عن بلاد المشرق العربى، فتواصل الحشاشون معهم وهادنوهم وحالفوهم.
ومن جهة أخرى، ترصد الحشاشون لقادة وأمراء المسلمين بالقتل بحجج وذرائع مختلفة فى ذلك الوقت العصيب من الغزوات الصليبية، وأحد الأمثلة على ذلك هو ما حدث فى مسجد دمشق الكبير، والمسجد يموج بالمصلين لتأدية صلاة الجمعة بحضور مودود أمير الموصل، وطغتكين أمير دمشق، بعد عودتهما منتصرين من معركة كبرى هزما فيها قوات الصليبيين قرب طبرية فى فلسطين.
وبينما الجميع فى فرحة غامرة والدعوات تتصاعد بتحقيق المزيد من الانتصارات، وبينما الناس تهم بالخروج من المسجد، انقضَّ رجل فجأة على مودود أمير الموصل وعاجله بخنجره بأربع طعنات سقط الأمير على أثرها صريعًا مضرجًا فى دمائه، وسط ذهول الحرس الذين تمكنوا من القضاء على القاتل الغادر، واستنتج الناس وقتها من أسلوب الاغتيال المتهور المفاجئ أنه أحد الحشاشين.
وهكذا اغتال الحشاشون أميرًا مسلمًا كان عائدًا لتوه من انتصار كبير على قوات الصليبيين الذين أذاقوا بلاد المشرق العربى الويلات طوال قرنين من الزمان بغزواتهم الدموية المروعة، ولم تقتصر عملياتهم على ذلك، بل اغتالوا العديد من الأمراء والقادة والقضاة والشيوخ فى أنحاء العالم الإسلامى فى تلك المرحلة العصيبة التى تمكنت فيها الغزوات الصليبية من احتلال بيت المقدس وفلسطين وأجزاء واسعة من بلاد الشام.
كانت استراتيجية ذلك التنظيم تجد فى ضعف المجتمعات والدول مجالًا لتمدد دعوة التنظيم وتعزيز نفوذه وقوته، لذلك فقد ترصدوا لكل من كان يسعى للوحدة والقوة فى البلاد المصرية والشامية من الأمراء والقادة، حتى لو على حساب المصلحة العليا للأمة فى مواجهة الغزوات الصليبية، وعليه فلم يتورع هؤلاء عن استهداف صلاح الدين الأيوبى نفسه وتدبير محاولتين لاغتياله.
• • •
المقاربة بين تنظيم الحشاشين والعديد من التنظيمات الإرهابية المعاصرة ممكنة وواردة فى إطار حروب الجيل الرابع التى ابتكرتها العديد من مراكز الفكر الاستراتيجى وأجهزة الاستخبارات فى الدول الكبرى لتحقيق أهدافها.
فحروب الجيل الرابع تقوم على تفادى المواجهة المباشرة مع الدولة الخصم، واستخدام استراتيجية الهدم من الداخل بجعل الخصم يدمر نفسه بنفسه، ومن خلال مخططات تقوم فى جانب منها على إنشاء تنظيمات تعمل على إفشال الدولة وزعزعة استقرارها السياسى والاقتصادى والأمنى، بما يؤدى إلى إشاعة الفوضى والاضطراب والاحتراب الداخلى، ومن ثم إنهاك الدولة التى تتآكل تدريجيًا ببطء من الداخل حتى الوصول لنقطة انهيارها.
وعليه كان قيام هذه الدول بإنشاء وتمويل وتدريب العشرات من التنظيمات الإرهابية، وإمدادها بالسلاح والعتاد والذخائر والمعلومات، واستغلال الدين وغسيل عقول البسطاء بالمفاهيم الزائفة والفاسدة وتحريض الأفراد المغرر بهم والمخدوعين على الانضمام لتلك التنظيمات التى عادة ما يتم إنشاؤها فى المناطق والدول المستهدفة.
• • •
لقد قدم إلى الشرق منذ عقود بعيدة عشرات المستشرقين وعاشوا فيه ودرسوا مجتمعاته واستوعبوها وحللوها، وقدموا تقاريرهم إلى بلادهم فاستفادت بها لرسم استراتيجيتها ووضع سياساتها، وسار مفكروهم على نهجهم، فدرس أخطرهم وهو برنارد لويس تاريخ الشرق جيدًا وكتب عن دور الدين فى حياة الشعوب الإسلامية والعربية، وكيف يمكن استغلاله بدهاء لتحقيق أهداف الغرب فى تلك الدول، فباتت كتاباته منذ عقود مرجعًا وبوصلة للمخططين الاستراتيجيين.
تنظيم الحشاشين التاريخى أعادت إحيائه أجهزة المخابرات الغربية منذ عقود على هيئة معاصرة تمثلها الجماعات المتسربلة بعباءة الدين وجماعات التأسلم السياسى وتنظيمات الإخوان وميليشيات القاعدة وداعش وجبهة النصرة وعشرات من التنظيمات التى تحمل أسماء إسلامية رنانة، وجميعها تنظيمات إرهابية وميليشيات قاتلت جيوش بلادها وأنهكتها وأسهمت فى تدهور مجتمعاتها وتفكك بلادها وانهيارها.
وباعتبار أن استمرار وبقاء تلك التنظيمات هو رهن بإرادة مؤسسيها وأوامرهم التى تخدم أهدافهم السياسة والاقتصادية، يتم توجيه تلك التنظيمات لممارسة نشاطها فى القيام بالأعمال الإرهابية وتدمير استقرارها الأمنى الداخلى واستنزاف مواردها وتدمير اقتصادها وإنهاك قواها وإضعاف جيشها.
هذه التنظيمات الإرهابية "الحشاشين المعاصرين" كانت على الدوام وفية مطيعة لمؤسسيها ورعاتها، تأتمر بأمرهم وتضرب حيث تؤمر من سادتها، وحيث يتطلب الأمر يصدر لهم الأمر، فى سورية فى العــراق فى ليبيا فى روسيا فى نيجيريا فى مالى، وفى أى دولة تستهدف.
ومثلما لم يوجه تنظيم الحشاشين القديم رغم قدراته وتنظيمه الرهيب أى إسهام فى مقاومة الغزاة الصليبيين، لم يوجه الحشاشون المعاصرون طلقة واحدة إلى الكيان الصهيونى الغاصب فى فلسطين.
أستاذ ومستشار الاقتصاد الدولى واللوجيستيات
الاقتباس
المقاربة بين تنظيم الحشاشين والعديد من التنظيمات الإرهابية المعاصرة ممكنة وواردة فى إطار حروب الجيل الرابع التى ابتكرتها العديد من مراكز الفكر الاستراتيجى وأجهزة الاستخبارات فى الدول الكبرى لتحقيق أهدافها.