فى هذا الوقت من العام تظهر نتيجة الثانوية العامة ويبدأ النقاش حول الكليات التى يريدها الأبناء وقد ينقلب الوضع إلى مشاجرة بين الآباء الذين يرغبون فى التحاق أبنائهم بكلية تضمن وظيفة مرموقة بمرتب مرتفع وبين الأبناء الذين يرغبون فى الالتحاق بكلية يحبونها بغض النظر عن مستقبل الوظيفة. قد يقول قائل إن المستقبل الآن للذكاء الاصطناعى، وقد يقول الآخر بل المستقبل لتصنيع رقائق الكمبيوتر (chips)، وقد يقول ثالث بل هو للحاسبات فائقة السرعة. يجب أن نعترف أنه من الصعب جدًا التكهن بالمستقبل لأنه لا يعتمد فقط على التقدم العلمى والتكنولوجى لكن أيضًا على الاقتصاد العالمى والمشهد السياسى. لنرى مشهدين حاليين.
المشهد الأول: إنجلترا ألغت مشروعات بحوالى اثنين مليار دولار متعلقة بالذكاء الاصطناعى والحاسبات فائقة السرعة، والسبب هو أزمة مالية مما جعل الحكومة تركز على مشروعات أكثر إلحاحًا فى الوقت الحالى.
المشهد الثانى: المدير التنفيذى لشركة أنتل وهى من أكبر شركات تصميم وتصنيع رقائق الكمبيوتر أعلن عن خطة لإنهاء عمل 15 ألف عامل فى الشركة قبل نهاية العام الحالى، هذا العدد يمثل 15% من القوة العاملة فى الشركة التى أعلنت عن خسارة تقدر بمليار وستمائة مليون دولار فى الربع الثانى من هذا العام. السبب هنا أن إنتل لم تستطع اختراق سوق الأجهزة المحمولة (التليفون الذكى والساعة الذكية والتابلت) وأيضًا لا تستطيع مجاراة شركة إنفيديا فى تصميم الرقائق المستخدمة فى الذكاء الاصطناعى.
هذا المشهدان يوضحان بجلاء أن كون تكنولوجيا ما ناجحة على المستوى البحثى أو حتى العملى لا يعنى أن السوق ستحتاج بشدة إلى المتخصصين فى هذه التكنولوجيا لأن المشهدين السياسى والاقتصادى قد يكون لهما رأى آخر.
مقالنا اليوم يتحدث عن فرعين من التكنولوجيا والعلاقة بينهما: علوم الكمبيوتر وهندسة الكمبيوتر.
...
كليات الحاسبات من المفترض أن تركز على البرمجيات أى السوفتوير (software) بما فيها الذكاء الاصطناعى وغيرها. أما كليات الهندسة قسم الحاسبات من المفترض أن تركز على تصميم وعمل أجهزة الكمبيوتر أى الهاردوير (hardware). طبعًا على كل كلية أن تركز على تخصصها وتعطى لمحة من التخصص الآخر، لكن للأسف نرى بعض أقسام الكمبيوتر فى كليات الهندسة تركز على البرمجيات لدرجة أنك تظن أنك فى كلية حاسبات. أعتقد أن هناك سببين لذلك:
تصميم الكمبيوتر عملية معقدة ومكلفة وتأخذ وقتًا ولن نستطيع أن ندخل هذا المضمار فى مصر.
تصميم البرمجيات أسهل وعائده أسرع.
بالنسبة للنقطة الأولى يجب أن نفرق بين التصميم والتصنيع. التصميم لا يحتاج مصانع لكن يحتاج أجهزة كمبيوتر وبرمجيات تصميم وعقول مبدعة وهذا نستطيع توفيره بسهولة. شركة عملاقة مثل إنفيديا وهى من أكبر شركات تصميم الرقائق المستخدمة فى تطبيقات الذكاء الاصطناعى وتلك المستخدمة فى معالجات الصور والفيديو لا تمتلك مصانع، بل تقوم بالتصميم، أما التصنيع فيتم فى شركة (TSMC) التايوانية. التصنيع هو ما يحتاج مصانع متقدمة وبرمجيات غالية الثمن، أى تحتاج استثمارات كبيرة. الحل أن نبدأ بالتصميم ونقنع شركات التصنيع الكبرى بفتح مصانع عندنا ولو حتى مصانع صغيرة.
بالنسبة للنقطة الثانية فإنه فعلا تصميم البرمجيات أسهل وأسرع من حيث العائد، لكن المنافسة فيها كبيرة جدًا ووسائل البرمجة تتطور بسرعة كبيرة خاصة مع ظهور برمجيات الذكاء الاصطناعى التوليدى مثل (chatGPT).
خلاصة القول أن هندسة الحاسبات مهمة وعلوم الحاسبات أيضًا مهمة وكلاهما له مردود إيجابى على الاقتصاد إذا ما أحسنا إدارتهما.
...
حيث إننا نتحدث عن السوفتوير والهاردوير فهناك نقطة مهمة يجب أن نذكرها. نحن نستخدم الكمبيوتر لأداء وظيفة معينة لأنه فى النهاية مجرد أداة. النقطة الهامة أن ما نستطيع عمله بالبرمجيات (أى السوفتوير) نستطيع أيضًا تصميم دائرة كهربائية (أى الهاردوير) تحقق نفس الهدف. قد يبدو هذا مفاجئًا لأن الناس تعتقد أن الكمبيوتر مجرد جهاز ينفذ أوامر البرمجيات، لكن الحقيقة أننا نستطيع تصميم كمبيوتر يقوم بوظيفة معينة دون برمجيات. هذا الكمبيوتر سيكون أسرع لكنه لا يستطيع عمل أى شىء إلا تلك الوظيفة. تحقيق الخدمة عن طريق السوفتوير أبطأ لكن بها من المرونة أنك تستطيع تطوير البرمجيات وتصحيح أى خطأ بها. إذا الاختيار هو بين المرونة وبين السرعة. هناك تصميم لأجهزة الكمبيوتر يجعلها تقوم ببعض العمليات بكفاءة وسرعة عالية وتقوم بالعمليات الأخرى بسرعة عادية أو أبطأ قليلًا، وهو ما تنفذه شركات عديدة الآن بجعل بعض أجهزة الكمبيوتر تقوم بتنفيذ برمجيات الذكاء الاصطناعى بسرعة كبيرة بالمقارنة بالبرمجيات الأخرى.
أهمية ما قلناه الآن هو أن يعطى فكرة للطلبة عما يمكن فعله بالهاردوير وما يمكن فعله بالسوفتوير ويعطى أفكارًا لمشاريع التخرج أو الرسائل العلمية.
تحدثنا عن الوضع العلمى المتعلق بالكمبيوتر والوضع الاقتصادى، فماذا عن الوضع السياسى؟
...
هناك نقطة واحدة سنتطرق لها وهى شركة (TSMC) وهى شركة مسئولة عن «تصنيع» حوالى 54% من سوق رقائق الكمبيوتر العالمية. هذه الشركة تقع فى تايوان، والوضع السياسى هو أن الصين تحاول ضم تايوان وأمريكا لن تسمح بوقوع تلك الشركة فى يد الصين، مما يجعل الوضع هناك على حافة البركان. كتاب (Destined for War) أو «متجه للحرب» من تأليف جراهام أليسون الأستاذ بجامعة هارفارد يشرح الموقف وتاريخه بجلاء. أى مشكلة تقع لشركة (TSMC) قد تؤدى إلى نقص شديد فى رقائق الكمبيوتر مما سيؤثر على سوق الهاردوير والسوفتوير معًا.
...
عودة إلى موضوع الثانوية العامة ماذا يختار الطالب؟ أعتقد أن الطالب يجب أن يختار التخصص الذى يحبه بغض النظر عن المستقبل الوظيفى، ثم عليه أن يبرع فى هذا التخصص (علمى كان أو أدبى) ثم يتابع عن كثب ما يحدث فى عالم التكنولوجيا ويرى أن كان يستطيع أن يستخدم هذه التكنولوجيا فى تخصصه. نحب أن نرى الجغرافى الذى يستخدم الذكاء الاصطناعى أو الجيولوجى الذى يستخدم الحاسبات فائقة السرعة... إلخ.
كما نريد أن نرى متخصصين فى مجال الذكاء الاصطناعى وتطبيقاته نريد أيضًا أن نرى «مصر تصنع الإلكترونيات».