التحدى الأكبر لـ«التنمية المستدامة» ــ ليس فى مصر أو القرى المصرية فقط ولكن فى أنحاء مختلفة من العالم ــ هو كيفية وقف منحنى تدهور الطبيعة وتحويله من منحنى سلبى إلى آخر إيجابي؛ أى إعادة ازدهار العناصر المكونة للبيئات الطبيعية المحلية وخاصة التربة، المسئولة عن حوالى ٢٥٪ من التنوع الحيوى، بالإضافة للعناصر النباتية المحلية والكائنات التى تعيش وتدعم هذا التنوع مثل الطيور والحيوانات الأخرى الصغيرة والكبيرة، ولا نستطيع فى ضوء ما نعرفه عن تشبع التربة فى القرى بالمبيدات والأسمدة أن نستبعد أى مجهود مطلوب لإعادة الحياة إليها، كما أنه من الضرورى استعادة الترابط الصحى الذى يعد جوهريا لمنظومة المياه، وأخيرا فإن التخلص من الملوثات والغازات الضارة ضرورى لهواء يسمح لنا وللكائنات الأخرى بالتنفس. وذلك يجب أن يتم بحلول العام ٢٠٣٠ وإلا سنواجه أخطارا لا نستطيع التصدى لها.
ترجمة ذلك فى القرى المصرية بالصورة التى تضع آلية عملية لذلك هو التحدى الأكبر لوضع رؤية عامة يتم نقلها لاستراتيجيات وخطوات محددة.
أما فيما يخص الأهداف الاجتماعية، فبالرغم من عدم وصولنا لمسح اجتماعى اقتصادى للقرية لكن يمكننا الاعتماد على المؤشرات العامة لعدة أبحاث وخاصة الحديثة منها الصادرة عن جهاز التعبئة العامة والإحصاء. ويجب أيضا أن نضع أهدافا تتعلق بالصحة، ونعتقد أن بيانات مشروع ١٠٠ مليون صحة ومشروع المسح الصحى لتلاميذ المدارس يمكن أن تكون هادية عامة، ولا أدرى إن تم تصنيف تلك البيانات جغرافيا، لأن ذلك ولا شك سيكون مهما للغاية فى تحديد التحديات الخاصة بالأماكن المختلفة وإعطائها الأولويات الواجبة. لدينا أيضا مشكلات تتعلق بظروف السكن وحالته للسكان المحليين، ليس من الخارج فقط ولكن من الداخل أيضا. ولكن نتائج الإحصاء الأخير، والتى بينت وجود عدد كبير من الوحدات السكنية الشاغرة والتى قدرها بعض الخبراء بأنها ربما تكفى الاحتياجات حتى 2030 وما بعدها، تمكننا على الأقل الآن من إعطاء الأولويات للبيئة الطبيعية والاقتصاد، وبالتالى سنتمكن من تطوير خطط مناسبة للإسكان وخاصة فيما يتعلق بجودة الحياة فى المناطق السكنية وداخل المساكن.
•••
تعتمد تلك الرؤية على ما تعلمناه من منظمة الصحة العالمية وخبيرها أنه فى ظل الظروف الطارئة لا شك أن التغير المناخى وتدهور البيئة الطبيعية وتأثيرهما الشامل والكبير للغاية على بيئتنا هو ما يدخل فى إطار تلك الطوارئ. وكما يقول مسئول الطوارئ بالمنظمة يجب أن نتصرف ونعمل بسرعة ونحسن من أدائنا فى الطريق طبقا للمعلومات والبيانات التى ستتوفر لاحقا.
نبنى الرؤية المقترحة على مفهوم القرية كمنظومة إيكولوجية اجتماعية وهو مفهوم قائم على اعتبار أن الناس هم جزء من، وليسوا منفصلين عن، الطبيعة. وقد أظهرت الدراسات والأبحاث الحديثة فى هذا المجال أن هذا الارتباط أساسى لبنية وعمل المنظومات الطبيعية، وأن التنوع الحيوى الثقافى ضرورى لمرونة هذه المنظومة. وهى منظومة متجانسة من العوامل الحيوية والاجتماعية والتى تتفاعل بانتظام فى مرونة وصورة مستدامة. والموارد الرئيسية لتلك المنظومة (طبيعية واقتصادية واجتماعية وثقافية) تدار أو تنظم من خلال تركيبة متداخلة. ومن النتائج الهامة لهذا المفهوم أن قضايا رئيسية، مثل المساواة ورفاهية الإنسان والتى فى العادة لا تلقى اهتماما كبيرا فى الدراسات الإيكولوجية، تصبح أيضا ذات أهمية كبرى.
وفى إطار المنظومة البيئية الاجتماعية يمكن بناء قدرات للتكيف مع التغيرات. كما أنها تحتاج باستمرار للتحقق وتطوير المعرفة والفهم حتى يمكن التعامل مع التغير وعدم اليقين المرتبطين بالطبيعة وعناصرها (مثلا انظر لعدم اليقين فى التنبؤ بالأرصاد الجوية). وللمعرفة التقليدية المحلية دور هام فى تلك المنظومة حيث أن تلك المجتمعات تفاعلت مع النظم الإيكولوجية بصورة يومية وعلى مدى زمنى طويل ولديها المعرفة عن الموارد وديناميات تلك النظم، بالإضافة لممارسات إدارتها. وهناك العديد من الدروس التى يمكن تعلمها واستخلاصها من تلك المعارف التقليدية والتاريخية والتى يمكن أن تكون ذات فائدة كبيرة فى إدارة المنظومات المعقدة وخاصة فى ظل فترات التغير السريع وعدم اليقين وإعادة التنظيم.
استفدنا من فهمنا للتغير المناخى كإطار يمكننا من فهم المنظومة المعقدة للقرية كشبكة مترابطة من المكونات العديدة والتى يعتمد كل منها على الآخر ويؤثر فيه. ويمكننا هذا الإطار من إدراك أن مقياس التدخل يجب أن يتلاءم مع تلك الوحدات الصغيرة المترابطة وعلى ذلك تكون المشروعات والتدخلات الصغرى هى الأساس. ولكى يكون لتلك التدخلات أكبر الأثر يجب أن نتفهم أيها له أكبر الارتباطات والتأثير مع باقى المكونات وبصورة تمكن من التركيز عليه والبدء به لبناء شبكة أولى من المشروعات الصغرى التى بدورها تمهد لإحداث تأثير أكبر.
كما تمكنا من خلال الفهم البيئى للاقتصاد وضرورة ارتباط التدخلات باستعادة الدورات الطبيعية التى تعمل على تحسين وتأهيل موارد البيئة المتدهورة من أن نركز على التدخلات التى تستهدف وتستخدم الموارد المحلية، وأن تكون تلك التدخلات متعددة الأهداف، وهو من أهم الدروس التى يمكن أن نتعلمها من الطبيعة وكيف تبقى فى تجدد مستمر.
•••
أخيرا، وفى صياغة يمكن شرحها ومناقشتها مع المجتمعات المحلية والمهتمين والمهتمات، قمنا بتحديد خطوات أربع رئيسية يمكن من خلالها تحقيق رؤية الريف المتجدد: أولها يتعامل مع الأرض، وثانيها يتعامل مع الماء، وثالثها يتعامل مع التنقل، أما رابعها فيتعامل مع البيئة فى صورتها الافتراضية. كل واحدة من تلك الخطوات الأربع يمثل رافعة تمكنها يدها الطويلة من تغيير المنظومة المركبة والثقيلة القائمة، وطول يد الرافعة يمكن الأفعال الصغيرة من التأثير على المنظومة. ونستعين هنا بفهم العالمة الراحلة وأحد الأربعة الذين ساهموا فى التقرير المحورى «حدود النمو فى عام 1972» وهى أيضا رائدة كبيرة فى فهم المنظومات المعقدة وخاصة فى كتاباتها عن النقاط الرافعة. ولأن التدخل أو المشروع أو الجهد المبذول لا بد له من فاعلين وقائمين على تنفيذه، وهم من سميناهم بالأبطال لأنهم هم من سيقودن التغيير فى مجتمعهم المحلى وسيظهرون للآخرين كيف يمكن تحويل المنظومة المليئة بالتحديات والمشكلات إلى واقع أفضل يتحول ويستعيد توازنه البيئى.
قمنا ببلورة تلك الخطوات وتصور إمكانية تنفيذها من خلال دراسة أولية لقرية ميت رهينة بجنوب الجيزة والتى كانت منذ خمسة آلاف سنة أو أكثر قليلا موقعا لأول عاصمة لمصر القديمة الموحدة ممفيس. وتحوى جباناتها الممتدة من سقارة وحتى منطقة الأهرامات على جزء كبير من آثار مصر المعروفة أو غير المكتشفة حتى الآن. وارتباط المكان بالنيل منذ القدم وتوطن الزراعة فيه، بالإضافة إلى التوسعات العمرانية غير الرسمية والتى شهدت أوجها فى العقود الثلاثة الماضية تجعل تلك المنطقة واحدة من أكثر الأماكن تحديا للدراسة ولكنها أيضا ربما تحمل فى طياتها ما يمكن أن نتعلمه وننقله لباقى سكان وادى النيل.