(المدينة) غير الإنسانية - يحيى عبد الله - بوابة الشروق
الأربعاء 30 يوليه 2025 11:39 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع النجاح لنظام الدوري المصري الجديد في ظل مشاركة 21 فريقًا؟

(المدينة) غير الإنسانية

نشر فى : الثلاثاء 29 يوليه 2025 - 7:10 م | آخر تحديث : الثلاثاء 29 يوليه 2025 - 7:10 م

ما الذى لم تفعله الوحشية الإسرائيلية فى قطاع غزة؟! ألم تجعل الحياة مستحيلة فيه؟! ألم تهدم نحو 75% من مبانيه، وتسو مدنًا كاملة بالأرض؟! ألم تواصل قصفه ليلًا نهارًا بقنابل ثقيلة يتأثر بها، حتى، سكان مستعمراتها فى غلاف غزة؟! ألم تقتل الأطفال، والنساء، والشيوخ، والعزل بذريعة أن «حماس» تتخذ منهم دروعًا بشرية؟! ألم تستعمل التجويع، والمساعدات الإنسانية، سلاحًا، عن عمد وقصد، وأداة لتحقيق أهداف عسكرية، وتقتل، حتى، متعمدة، أفرادًا من أطقم المساعدات الدولية؟! (أفراد «المطبخ الدولى»).

ألم تدمر البنى المدنية الأساسية مثل مصادر المياه، وتترك الناس من دون مياه صالحة للشرب؟! ألم تدمر معظم مستشفيات القطاع، وتقتل الكوادر الطبية الكبيرة، حتى إنه لم يبقَ فى القطاع، سوى طبيب واحد للقلب، بحسب شهادة طبيب إسرائيلى كبير فى برنامج إذاعى إخبارى صباحى بالشبكة الثانية؟ ألم تعتقل كبار الأطباء من دون توجيه تهم إليهم؟! ألم تدمر المدارس، والجامعات، والمساجد، والكنائس؟! ألم تُحل الحياة فى القطاع إلى جحيم حقيقى؟! ألم تقترف كل جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية؟! ألم تشبع شهوة الانتقام المتأصلة لديها؟! لم يكتفِ وزير الحرب الإسرائيلى، يسرائيل كاتس، بكل هذا الإجرام، فتفتق ذهنه العنصرى عن خطة (تحظى بدعم رئيس الحكومة، مجرم الحرب، بنيامين نتنياهو، ووزراء حكومته) لطرد سكان القطاع، تحت تهديد السلاح، والتجويع، أيضًا (600 ألف فى المرحلة الأولى، ثم ما تبقى منهم فى مراحل لاحقة) وحشرهم فى معسكر اعتقال، أشبه بمعسكرات الاعتقال النازية، على أنقاض مدينة رفح، بين محورى «موراج» و«صلاح الدين»، قريبًا من الحدود المصرية، بعد تفتيشهم، وسجنهم فيه تحت حراب جيش الاحتلال إلى حين تخييرهم بين الإقامة فيه ومغادرة القطاع بغير رجعة.

من المثير للسخرية، أن الحكومة الإسرائيلية تطلق على هذا المعتقل الكبير اسم («المدينة الإنسانية»)، التى لا تمت للمدينة بأى صلة لكونها مجموعة من الخيام، ولا للإنسانية بأى صلة، لأنها معزل غير آدمى، يستهدف طرد الغزاويين من القطاع فى نهاية المطاف، ومن ثم فهى تتسق مع خطة الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، بحسب السفير الأمريكى، مايكل أورن، الذى يقول: «تقول مصادرى فى واشنطن إن ترامب لم يتخلَ عن فكرة تحويل غزة إلى (ريفييرا)، وستتيح خطة كاتس لإقامة («مدينة إنسانية») تنفيذ خطة ترامب»؛ وهو الأمر الذى يؤكده، ميخائيل ميلشتاين، رئيس قسم الدراسات الفلسطينية بمركز ديان بجامعة تل أبيب، الذى يشير إلى أن الخطة تستلهم (رؤيا) ترامب، التى تقوم على طرد الغزاويين من القطاع إلى دول أخرى؛ وهو يلاحظ أن معظم الإجراءات تتم فى جنوب القطاع، الذى من المفترض أن يمثل، فى نظر واضعى الخطة، "المحرك لتغيير القطاع بروح رؤيا ترامب"؛ وتتفق معهما، رافيت هَخْت، فى أن الخطة "تطور طبيعى بقدر معين لهراء الريلوكيشين الذى ابتكره ترامب، وهى مثل سابقتها داحضة أيضًا لكنها جزءٌ واضح أيضًا من عوالم التطهير الإثنى والترانسفير، تحت ستار فاشل لمصطلحيْن إيجابييْن ("ريلوكيشين"، و"إنساني") لا أحد يؤمن بهما".

• • •

تجدر الإشارة إلى أن الخطة اللاإنسانية من بنات أفكار الحزب الأكثر تطرفًا فى الحكومة الإسرائيلية، حزب "الصهيونية الدينية"، بزعامة، بتسلئيل سموتريتش، إذ تقول وزيرة الاستيطان والمهام القومية، أوريت ستروك، عضوة الحزب، وعضوة المجلس الوزارى المصغر للشئون الأمنية والسياسية: "نحن أقلية فى المجلس الوزارى المصغر. لدينا بضعة وسائل للتأثير. إحداها الإقناع، وأعتقد أننا أبلينا بلاء حسنًا فى هذا المضمار حتى اليوم، مثل فكرة الفصل ("الإنساني") ، نحن من ابتكرها فى البداية، ثم تبناها المجلس الوزارى المصغر برمته"، ما يعنى أن المتطرفين، "الماشيحانيين"، الغيبويين، التوسعيين، فى الحكومة، ممن يؤمنون بمفهوم (أرض إسرائيل الكاملة) ومن بينها غزة، لهم تأثير كبير على اتخاذ القرارات داخل الحكومة، وعلى قرارات المؤسسة العسكرية، أيضًا، التى تبنت الفكرة، وحاولت تطبيقها فى السابق من خلال خلق مناطق مسيَّجة ومغلقة يُحشَر فيها السكان من المدنيين من دون إمكانية فعلية للخروج منها، تسمَّى فقاعات «إنسانية»، بحسب المؤرخ لى موردخاى، الأستاذ بالجامعة العبرية، الذى يشير إلى أن سكان غزة، البالغ عددهم 2.1 مليون إنسان يتركزون الآن فى بؤرتين: واحدة فى قلب مدينة غزة والثانية فى الشريط الساحلى الغربى، فى المنطقة المعروفة باسم «المواصى»، وإلى أن 86% من أراضى القطاع، طبقًا لتقديرات الأمم المتحدة، تقع تحت سيطرة الجيش الإسرائيلى أو صدرت لسكانها أوامر إخلاء.

كان التجلى الأبرز للخطة ما عُرف باسم «خطة الجنرالات»، التى أوصت بمحاصرة شمال القطاع وتفريغه من سكانه، تحت وطأة السلاح والتجويع، ثم صارت، لاحقًا، جزءًا من العملية العسكرية المسمَّاة «مركبات جدعون»، كما يقول العقيد، احتياط، بروفيسور، جابى سيفونى، الباحث بمعهد القدس للاستراتيجيات والأمن: «فكرة إقامة مساحة («إنسانية») فكرة حيوية جدًا، كان من المفترض أن تُدرج، أصلًا، ضمن عملية «مركبات جدعون». طبقًا لخطة العملية، كانت الفكرة أن (يُخلَى) السكان من مساحات تحت حكم حماس، وأن يُفرض حصار عليها مع منع دخول أى مساعدات وماء إلى هناك، وبذا نُركع حماس. يمثل الاسم، «مدينة إنسانية»، فى حقيقة الأمر، كما يقول، ألون بن دافيد، «مغسلة كلمات لم يضنُ أحدٌ عليها بالمادة المبيّضة. إنها خطة لحشر سكان غزة فى زاوية واحدة فى جنوب القطاع، ليس بها لا مدينة ولا خدمات إنسانية». إذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك بالفعل، فمن أى قاموس، استقى، يسرائيل كاتس، إذًا، هذا المصطلح، النازى، المضلل، عن عمد؟ يفسر اللغوى الألمانى، فيكتور كلمبرر، الأمر بقوله، إنه لاحظ بعد هزيمة ألمانيا النازية، أن أعداء النازية (وعلى رأسهم اليهود بالطبع) يتحدثون بلغة النازيين، وأن خطابهم أكثر تدنيًا من خطاب النازية.

• • •

لقد لفتت الصياغات اللغوية، الملتوية، والمضللة، التى درج الساسة الإسرائيليون على تمرير رسائل معينة عبرها، خلال الحرب اللا إنسانية على غزة، نظر اثنين من الباحثين، الإسرائيليين، أحدهما مؤرخ والآخر فقيه لغوى، ألفا، سويًا، كتابًا عن وحشية اللغة المستعملة فى الخطاب السياسى الإسرائيلى، أشارا فيه إلى أن الساحة اللغوية داخل إسرائيل تشهد معركة "تُسحق فيها الكلمات، وتُخصى وتُشوَّه، وتزاح عن دلالاتها الفعلية، والحقيقية"، وإلى أن السلطة، ووسائل الإعلام التى تساعدها، فى هذه المعركة، "تنتهج ما لا حصر له من الوسائل من أجل التحكم فى تفكير الجمهور الإسرائيلى، وإخصاء قدرته على المعارضة، وتحويله، بخاصة، إلى شريك فى الجرائم التى تقودها حكومة إسرائيل منذ السابع من أكتوبر فى قطاع غزة والضفة الغربية".

يتهم الباحثان رئيس الحكومة ووزراءه، وأصحاب المصالح (القناة الرابعة عشرة والقناة السابعة وآخرين)، ومتعاونين فى القنوات التليفزيونية الرئيسة (12، 13، 11) وفى الصحف التجارية («يديعوت أحرونوت» و«يسرائيل هيوم») بأنهم ربطوا الجمهور الإسرائيلى، من مؤيدين ومعارضين لنتنياهو، بحرب مدمرة، وانتقامية، بلا نهاية، من خلال نقل الرسالة ذاتها مرارًا وتكرارًا بصور مختلفة وبالصورة نفسها أحيانا. من المصطلحات التى تحمل رسائل خبيثة، وتجرى على ألسنة الساسة ووسائل الإعلام، وأشار إليها البحث، الزعم بأنه «لا يوجد أبرياء فى غزة»، أو «لا يوجد (غزاويون) غير متداخلين» (فى القتال)، من أجل تبرير قتل الأطفال والنساء والشيوخ، و«من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها»، من أجل الزعم بأن الحرب فرضت عليها من ناحية، ومن أجل تبرير استهدافها لأى قوة فى المنطقة من ناحية ثانية، و«مناطق إنسانية» للتغطية على جريمة حشر السكان، تحت تهديد السلاح، فى معسكرات اعتقال غير آدمية، تمهيدًا لطردهم من ديارهم، و«هجرة طوعية»، للإيحاء بأن التخلص من سكان القطاع لم يحدث بالترهيب بالقتل، أو تحت وطأة التجويع، المتعمد.

• • •

ما المتوقع، إذًا؟ هل سيمضى نتنياهو وشركاؤه من المتطرفين فى تنفيذ خطة إقامة (المدينة) غير الإنسانية؟ من الملاحظ أن الخطة اللإنسانية تواجه مشاكل عديدة، منها ما يتعلق بتكلفتها المالية الباهظة (ما بين 10 و20 مليار شيكل/2.7 و5.5 مليار دولار)، والمدة التى سيُقام فيها معسكر الاعتقال الضخم (نحو عام أو أقل)، والتأثير على الأهداف المعلنة للحرب، والإضرار بالمفاوضات الجارية لإطلاق سراح الأسرى، والتبعات القانونية، والدولية (إذ حذَّر 16 خبيرا إسرائيليًا فى القانون الدولى وقوانين الحرب وزير الحرب، يسرائيل كاتس، ورئيس الأركان، إيال زامير، من أن تجميع ونقل سكان غزة إلى منطقة لا يستطيعون الخروج منها أمرٌ غير قانونى بشكل سافر، من شأن تطبيقه أن يُعدَّ جريمة حرب بل جريمة ضد الإنسانية، ومن شأنه أن يصل، حتى، تحت ظروف معينة إلى درجة إبادة جماعية)، والتأثير على العلاقات مع مصر(ثمة أخبارٌ تحدثت عن أن مصادر دبلوماسية مصرية أبدت اعتراضًا واضحًا لدى الولايات المتحدة الأمريكية، وإسرائيل، على الخطة، مشيرين إلى أنها قد تهدد بنود اتفاقية السلام التى تحظر أى خرق للترتيبات الأمنية المتفق عليها فى المنطقة الحدودية).

قد لا تجد الخطة طريقها إلى حيز التنفيذ، وقد تذوى مثلما ذوت فكرة ترامب عن «الريفييرا»، المزعومة، وقد تفشل مثلما فشلت خطط حكومية سابقة لطرد سكان القطاع فى 1956م و1967م، لكن الأفكار «الماشيحانية»، التوسعية، باقية، بل وتزدهر، وهو ما يمثل خطرًا مستمرًا.

 

 

 

يحيى عبد الله أستاذ الدراسات الإسرائيلية بجامعة المنصورة
التعليقات