منذ عقود مضت، خاصة على مدى العقود الثلاثة الماضية، استقرت الأوضاع وترسخت فى غالبية بلدان العالم على أساس تبنى مبدأ «الشراكة العامة /الخاصة»، أى أن التنمية بمعناها الشامل، أى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تستلزم بناء شراكة متينة القواعد والأسس واستراتيجية واضحة الرؤية والتصور وآليات وأهداف ذات طابع براجماتى وقابلة للتحقيق على الأرض بين الدولة وقطاعها العام والحكومى من جهة والقطاع الخاص داخل نفس الدولة من جهة أخرى، وهو مبدأ سعت العديد من المنظمات الدولية، خاصة تلك المعنية بالموضوعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، على الترويج له فى مشاريعها وبرامج عملها والسعى لنشره على الصعيد العالمى، بالطبع بحسب ظروف واحتياجات وخصوصيات كل دولة ومجتمع.
وفى هذا السياق وعلى تلك الخلفية ندرك أهمية المؤتمر الذى دعت إليه ونظمته فى شهر سبتمبر 2024 بمدينة جنيف السويسرية غرفة التجارة والصناعة العربية السويسرية، التى تتولى منصب أمينها العام الدبلوماسية العمانية البارزة هيلدا الهنائى، نائبة السفير العمانى فى جنيف سابقًا، والغرفة بدورها تابعة لاتحاد عام غرف التجارة والصناعة العربية الذى يتولى منصب أمينه العام الدكتور خالد حنفى، وزير التموين والتجارة الداخلية الأسبق فى مصر.
وقد تناول المؤتمر موضوعًا حيويًا للغاية بالنسبة للبلدان العربية، وهو كيفية استفادة مؤسسات القطاع الخاص العربى من عمل المنظمات الدولية المتخصصة فى الموضوعات الاقتصادية والتجارية المتواجدة فى مدينة جنيف، ومما يتمخض من نتائج عن عمل تلك المنظمات، ودور الحكومات والقطاع العام فى البلدان العربية، وكذلك المنظمات الإقليمية وشبه الإقليمية العربية، مثل جامعة الدول العربية ووكالاتها المتخصصة ومجلس التعاون الخليجى، فى تمكين القطاع الخاص العربى من تحقيق مثل تلك الاستفادة.
ويأتى انعقاد ذاك المؤتمر المهم فى مدينة جنيف ليكون ذى دلالة خاصة، حيث إن المدينة تستضيف عددًا من المنظمات الدولية المهمة ذات الولاية فى موضوعات اقتصادية وتجارية لعملها جميعها أبعاد تنموية، وتشمل هذه المنظمات منظمة التجارة العالمية ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأنكتاد) ومركز التجارة الدولية والمنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو)، بالإضافة إلى استضافة جنيف للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأوروبا، وهى وإن كانت تبدو كلجنة إقليمية إلا أنها فى حقيقة الأمر هامة بالنسبة للبلدان العربية، بسبب حصول عدد من الدول العربية على صفة المراقب فى تلك اللجنة واستفادتها من مشروعات وبرامج تنفذها تلك اللجنة وتتضمن تقديم أشكال مختلفة من الدعم التقنى.
كما أن اختيار غرفة التجارة والصناعة العربية السويسرية لكى يكون التركيز الرئيسى للمؤتمر على كيفية استفادة القطاع الخاص العربى تحديدًا من أنشطة وفعاليات وبرامج ومشروعات وإصدارات المنظمات الاقتصادية والتجارية والتنموية المتواجدة فى جنيف كان موفقًا من حيث تفادى الحديث فى عموميات ومناقشة طرقًا ووسائل وآليات محددة من شأنها تمكين القطاع الخاص العربى من تحقيق مثل تلك الاستفادة، فى ظل تشجيع شراكة كاملة بين الحكومات العربية والقطاع العام فى البلدان العربية من جهة والقطاع الخاص العربى من جهة أخرى، وكذلك فى ظل دور مساعد، لكن يجب أن يكون فعالًا ونشيطًا، من جانب المنظمات الإقليمية وشبه الإقليمية العربية، خاصة تلك ذات الولاية فى مثل هذه الموضوعات الاقتصادية والتجارية والتنموية.
كما أن الجهة المنظمة للمؤتمر نجحت فى أن تجمع فى قوائم المتحدثين والمشاركين فى المؤتمر ممثلين عن الفئات الأربعة المعنية بشكل مباشر بموضوع المؤتمر، وأعنى هنا أولًا عدد من السفراء المندوبين الدائمين لدى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى فى جنيف، مثل سفراء قطر وتونس وجيبوتى، أو ممثلى سفراء ومندوبين دائمين عرب آخرين من كبار دبلوماسى البعثات العربية الدائمة الأخرى فى جنيف، ثم عدد من كبار ممثلى تلك المنظمات الدولية المعنية بالشأن الاقتصادى أو التجارى او التنموى فى جنيف، وكذلك السفير المندوب الدائم لجامعة الدول العربية فى جنيف وبعض كبار معاونيه من دبلوماسى الجامعة، وأخيرًا وليس آخرًا بالتأكيد عدد من رجال الأعمال العرب من العديد من البلدان العربية كممثلين للقطاع الخاص العربى.
وكان فى مقدمة التوصيات التى خلصت إليها المداخلات والمناقشات التى دارت خلال المؤتمر هو ضرورة التحضير الجيد والمسبق من جانب الدول العربية قبل الدخول فى أى عملية تفاوضية تشهدها أى من المنظمات الدولية العاملة فى المجالات الاقتصادية والتجارية والتنموية والتى توجد مقارها الرئيسية فى جنيف للتوصل إلى معاهدة أو اتفاقية دولية، وأن مثل هذا التحضير الجيد يتطلب بالضرورة التشاور والتنسيق المسبق والمباشر والمكثف بين الحكومات من جهة وكل من القطاع العام والقطاع الخاص فى الدولة من جهة أخرى. كما أن مثل هذا التشاور والتنسيق يتعين أن يكون متواصلًا طوال عملية التفاوض تلك، وذلك بغرض صياغة أهداف ومواقف واستراتيجيات تفاوضية وطنية تعكس كل الرؤى والمصالح داخل الدولة، بما فى ذلك رؤى ومصالح القطاع الخاص.
وتأتى أهمية تلك التوصية فى ضوء واقع يؤكد تعاظم نصيب مساهمة القطاع الخاص الوطنى داخل كل دولة عربية فى الناتج المحلى الإجمالى لتلك الدول بشكل مستمر، وتزايد دوره فى توليد دخول إضافية للاقتصاديات الوطنية لتلك الدول، وكذلك فى توفير أعداد متزايدة من فرص العمل قى تلك الدول، وبالتالى سوف يكون القطاع الخاص متأثرًا بدرجة أو أخرى بنتائج أى عملية تفاوضية فى إطار المنظمات الاقتصادية والتجارية والتنموية الدولية تكون حكومات الدول التى يتبعها القطاع الخاص مشاركة فيها وتكون مطالبة بالالتزام بتلك النتائج بعد التوصل إليها فى نهاية العملية التفاوضية ذات الصلة فى تلك المنظمات. وفى ضوء ما سبق، فإن اتخاذ قرار التوقيع على معاهدة أو اتفاقية دولية على الصعيد الاقتصادى أو التجارى أو الانضمام إليها هو قرار بالتأكيد تتخذه الحكومات، لكن من المهم التشاور بشأنه مع الأطراف الوطنية أصحاب المصلحة وفى مقدمتهم ممثلى القطاع الخاص، وذلك بغرض تعظيم مكاسب الدولة وتقليل خسائرها من جراء الانضمام لتلك المعاهدات أو الاتفاقيات.
كذلك تضمنت التوصيات التى خلص إليها المؤتمر ضرورة الاهتمام بمسألة تدريب الكوادر البشرية. وتناول المؤتمر هذا الموضوع من شقين. أما الأول فهو الدعوة للاهتمام بتعريف رجال الأعمال والمسئولين التنفيذيين بمؤسسات القطاع الخاص العربى بلغة ومفردات الخطاب المستخدم داخل أروقة المنظمات الاقتصادية والتجارية والتنموية الدولية بجنيف، وهو الأمر الذى من شأنه أن يسهل عليهم متابعة أنشطة تلك المنظمات. أما الشق الثانى الذى تناوله المؤتمر لهذا الموضوع فهو الدعوة لإسهام القطاع الخاص العربى فى تمويل التدريب الذى تحتاجه الكوادر الحكومية العربية المنوط بها المشاركة فى عملية التفاوض فى المنظمات الاقتصادية والتجارية الدولية للتوصل إلى معاهدات أو اتفاقيات دولية. وبما أن القطاع الخاص يود ضمان ألا تحمله أى معاهدات أو اتفاقيات اقتصادية أو تجارية دولية جديدة أى خسائر، بل تحقق له مكاسب، فإن عليه المساهمة فى توفير موارد لضمان التدريب اللازم لتلك الكوادر الوطنية.
كذلك اندرج ضمن توصيات المؤتمر الذى نظمته غرفة التجارة والصناعة العربية السويسرية مؤخرًا فى جنيف مسألة ربما لم يتم التطرق إليها من قبل على مثل هذا النحو من التفصيل والدقة، وتتعلق بكيفية مساهمة الحكومات العربية فى ربط القطاع الخاص العربى بما يصدر عن المنظمات الاقتصادية والتجارية والتنموية الدولية فى جنيف من تقارير ودراسات مهمة من جهة، وكيفية التشاور والتنسيق مع القطاع الخاص العربى أيضًا عند إعداد ردود وتعليقات الحكومات على تلك الدراسات والتقارير بما يستفيد مما قد يكون لدى القطاع الخاص من رؤى «خارج الصندوق» تمثل إضافة لما تعده الحكومات من ردود وتعليقات من خلال أبعاد جديدة قد تسهم فى أن تعكس تلك الردود والتعليقات مجمل المصالح الاقتصادية للدولة على النحو الأمثل.
وهكذا نرى أن مؤتمر غرفة التجارة والصناعة العربية السويسرية فى جنيف قد نجح فى تناول موضوعات مهمة تخص جميعها فرص وإمكانيات تعظيم استفادة القطاع الخاص العربى من أنشطة ونتائج أعمال المنظمات الاقتصادية والتجارية والتنموية الدولية الموجودة فى جنيف، بدعم مباشر من الحكومات والقطاع العام فى البلدان العربية، وبجهود داعمة أيضًا من المنظمات الإقليمية وشبه الإقليمية العربية ذات الصلة.