من المحير ألا تستجيب العملة الوطنية لرفع أسعار الفائدة بانتظام، وأن تستمر فى السقوط الحر أمام الدولار الأمريكى بمعدلات تاريخية. كذلك من النادر أن يقدم البنك المركزى على بيع الذهب بكثافة لا ليعيد تشكيل الاحتياطى كما هى العادة، وإنما فى محاولة يائسة لمساندة العملة وتلبية احتياجات مواجهة جائحة كورونا. عن الاقتصاد التركى أتحدث، ويتحدث مختلف المحللين الاقتصاديين الذين ظلوا يتابعون اتجاه التردى المستمر للمؤشرات الاقتصادية لتركيا خلال أكثر من عامين، دون وجود نقطة انقلاب واحدة جادة لهذا الاتجاه!...
يقول محافظ سابق للبنك المركزى التركى درموش يلماز إن الاقتصاد يواجه أزمة تقترب من تلك التى ضربت تركيا عام 2001 حينما قامت الشركات الأجنبية بشراء أسهمها رخيصة من الأسواق. بنهاية أكتوبر الماضى كانت الليرة التركية قد فقدت بالفعل ما يقرب من 30% من قيمتها أمام الدولار الأمريكى خلال العام. تحوّلت تركيا إلى ملاذ لمضاربى العملات مع تزايد حالات عدم اليقين بشأن اقتصادها.
وعلى الرغم من كون كثير من ملامح التباطؤ الاقتصادى فى الناتج المحلى الإجمالى لتركيا يمكن إرجاعها إلى تداعيات جائحة كورونا التى ضربت الجميع بنسب متفاوتة، إلا أن الأزمة التركية تبدو أقدم وأكثر تجذّرا فى مفاصل الاقتصاد. كذلك لا يمكن إغفال الأثر الاقتصادى للشقاق السياسى الذى تعزز منه سياسات الرئيس التركى فى محيطه الأوروبى، والذى انقطعت آماله فى الانضمام إلى اتحاده المريض بالفعل، وتلك السياسات المنحازة إلى فصيل سياسى ملفوظ من الشرق الأوسط والعالم، التى جعلت من الإدارة التركية راعية للمد الأصولى المتطرف جنوب المتوسط، بل وللإرهاب الذى يرتكب باسم ذلك المد وتحت راياته فى مختلف بقاع العالم.
تلك الصورة الذهنية التى يتسابق أردوغان على ترسيخها فى الضمير العالمى، للمنافسة على المركز الإيرانى كعضو عامل فى محور جديد للشر، لا يمكن أن يتعافى معها الاقتصاد التركى المنفتح بتكوينه على حركة التجارة العالمية، وعلى تدفقات رءوس الأموال من مختلف الجهات. فبعكس الاقتصاد الصينى (كأحد أهم الاقتصادات التى تعرضت للعزلة وللحروب التجارية عبر تاريخها) فإن الاقتصاد التركى لا يمكن أن يتعافى ذاتيا، ولا يملك رفاهية الاستغناء عن شركاء التجارة والمستثمرين الأجانب.
***
وللتعرف أكثر على درجة الانفتاح الاقتصادى التركى على العالم، فإن مؤشر الانفتاح التجارى لتركيا والذى ينسب إجمالى صادرات الدولة ووارداتها إلى الناتج المحلى الإجمالى قد تطور من 5.73% عام 1960 إلى أعلى مستوياته فى عام 2019 بنسبة 61.39% من الناتج المحلى الإجمالى لتركيا. علما بأن المتوسط العام للانفتاح التجارى لدولة كبرى مثل الصين خلال ذات الفترة لم يزد عن 27.12% ولم يزد عن 35.68% عن العام 2019. السوق الصينية الداخلية يمكنها أن تستوعب الناتج الاقتصادى الأكبر فى العالم حتى وإن اضطربت حركة التجارة الخارجية للدولة خلال بعض السنوات. لكن على الرغم من ذلك فإن المتوسط العالمى لعدد 143 دولة يشملها التصنيف يصعد بنسبة الانفتاح التجارى إلى 94.77% من الناتج الإجمالى لمجموعة الدول الأمر الذى يجعل تركيا فى منطقة منخفضة نسبيا، لكنها تظل أكثر انفتاحا (ومن ثم عرضة للتقلبات العالمية) من مصر التى حققت نسبة لا تزيد عن 48.28% عام 2018 وكانت أعلى درجة انفتاح لها عام 1981 وبلغت 74.46% من الناتج المحلى الإجمالى theglobaleconomy.com)).
إذن فقدرة الاقتصاد التركى على الصمود للمقاطعة التجارية باتت أقل، ومن ثم فقد كانت دعوات أردوغان لمقاطعة السلع الفرنسية سببا مباشرا فى انقلاب بعض الدول الأوروبية عليه والدعوة إلى استخدام السلاح ذاته ضده. دعوات المقاطعة الاقتصادية المشفوعة بالمشاعر الدينية الملتهبة ضد التجاوزات التى تنال من العقائد لطالما كانت شعبية المنشأ، نادرا ما تحركها قيادة سياسية وتعلن عنها فى استعراض غير مفهوم للسيطرة والقوة... تناولت فى المقال السابق هذا النوع من التجاوزات تحت عنوان «قميص الحرية الأخير» وأبديت رفضى التام له وإدانتى غير المشروطة لانتهاك العقائد باسم الحرية، لكننى لم أوافق على استخدام سلاح المقاطعة الاقتصادية فى ظل تزايد التشابك الاقتصادى بين الدول، والذى يزيد من صعوبة الوقوف على الأثر الصافى لاستخدامه، ناهيك عن تحوّل هذا السلاح (ذى الحدين) من أداة شعبية إلى أداة سيادية «شعبوية».
وبالنسبة لتدفقات الاستثمار الأجنبى فقد تطرق تقرير الاستثمار العالمى للعام 2020 لمنظمة الأونكتاد إلى تراجع كبير لتدفقات الاستثمار الأجنبى داخل تركيا من 13 مليار دولار أمريكى عام 2018 إلى 8.4 مليار دولار بنسبة تراجع تقترب من 35% فى عام واحد! وهو العام السابق على انتشار جائحة كورونا والذى كان ينذر بجائحة اقتصادية تضرب تركيا مبكرا. التقرير أرجع التراجع إلى تزايد حالة عدم اليقين عالميا وإلى ضعف النمو الاقتصادى. رصيد الاستثمار الأجنبى المباشر فى تركيا بلغ فى نهاية عام 2019 ما قيمته 165 مليار دولار نزولا من 188 مليار دولار عام 2010. وإذا كانت تركيا قد اعتمدت حزمة جديدة من حوافز جذب الاستثمار فى قطاعات التمويل والصناعة والطاقة (وهى القطاعات المستقبلة لأكبر تدفقات مالية أجنبية خلال العام الماضى وفقا لإحصاءات المركزى التركى) فإن معظم تلك التدفقات قادمة من دول أوروبا وتحديدا من هولندا والمملكة المتحدة ولوكسمبورج. وكذلك ارتفعت التدفقات الأمريكية إلى الداخل التركى خلال السنوات الأخيرة لتصبح ثانى أكبر اقتصاد مستثمر فى تركيا بعد هولندا.
ومن حيث استثمارات الحافظة (غير المباشرة) فإن هولندا تحتفظ بالمركز الأول باستثمارات تبلغ نسبتها 15.7% من الاستثمارات الأجنبية فى تركيا، تليها الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة 7.7% ثم دول الخليج بنسبة 6.8%... إذن فسياسة مقاطعة الدول التى تسمح بالإساءة إلى المقدسات الإسلامية إذا ما امتدت إلى هولندا فسوف تفقد تركيا أكبر مجموعة مستثمرين أجنبية فى كل من استثماراتها المباشرة وأسهم شركاتها... كما أن السياسات المستفزة لأهم دول مجلس التعاون الخليجى عبر الترويج لبضاعة الإخوان الكاسدة والفصائل المتأسلمة الفاسدة تهدد الاقتصاد التركى بفقد نسبة كبيرة من مستثمرى الحافظة فى الاقتصاد التركى.
***
وإذا كان الموقف التركى الداعم لأذربيجان ضد أرمينيا قد فسّره البعض بمدخل تاريخى من خلال النظر إلى تاريخ الكراهية التركية لشعب الأرمن، فإن مدخلا اقتصاديا بحتا يمكنه أن يفسر الانحياز الأخير، إذ اعتلت أذربيجان المركز الأول كأكبر استثمار أجنبى مباشر فى البلاد عام 2019 وذلك نتيجة لتدشين مشروع ستار لتكرير البترول الذى تديره شركة سوكار المملوكة من دولة أذربيجان، الأمر الذى ساهم فى ضخ 24.2% من إجمالى تدفقات الربع الأول من العام 2019 والتى تم ضخها فى قطاع الطاقة، الذى أتى تاليا لقطاع تجارة الجملة كأكبر قطاع تلقيا لتدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر خلال هذا الربع.
وها هو محافظ جديد للمركزى التركى يتم عزله من منصبه منذ أيام بعد مرور 16 شهرا فقط من توليه المسئولية لفترة كان من المفترض أن تمتد أربع سنوات، على خلفية التراجع الشديد فى الليرة أمام الدولار الأمريكى حيث بلغ الدولار ما قيمته 8.5 ليرة يوم الجمعة الماضى. المحافظ المعزول مراد أوزال والذى تم استبداله بوزير مالية سابق وجّهت إليه سابقا العديد من الانتقادات لاستمراره فى تخفيض أسعار الفائدة على العملة المحلية على الرغم من بلوغ معدلات التضخم مستويات مرتفعة من رقمين، ومن المعروف أن هذا الاتجاه للمحافظة على أسعار فائدة منخفضة نسبيا كان بتوجيه من الرئيس التركى نفسه، وذلك بغرض جذب الاستثمارات وحفز النمو وهو ما أدى إلى تخفيض أسعار الفائدة على مدى العام من نحو 24% إلى 8.25% وهو المستوى الذى استمرت معه العملة فى نزيف قيمتها أمام الدولار حتى عاود المحافظ المعزول رفع معدلات الفائدة بمائتى نقطة أساس سبتمبر الماضى لكن دون جدوى، ومنذ ذلك التاريخ وقد اعتمد المركزى سياسات كابحة أخرى بخلاف رفع أسعار الفائدة، لكن الليرة لم تستجب لها. عزل محافظ المركزى التركى والذى يعيد إلى الأذهان عزل المحافظ السابق فى يوليو 2019 يعطى انطباعا متكررا للتدخل الغاشم من الرئيس التركى فى أعمال السياسة النقدية.
على الصعيد الاقتصادى تحاول تركيا أن تخرج من أزمتها، تحسّن من أنظمتها الضريبية، ترتفع عشر مراكز فى تقرير ممارسة الأعمال للعام 2020 عن العام السابق لتحتل المركز 33 بين 190 دولة، لكن على الصعيد السياسى تتهددها مخاطر العزلة الخارجية والعقوبات الاقتصادية من ناحية، والتوترات المحلية الناتجة عن تدهور العملة الوطنية وانفلات التضخم والدين العام والتدخلات الرئاسية فى السياسة النقدية من ناحية أخرى، وهى تحديات كبيرة يبدو أن الإدارة التركية لا تعطى لها الاهتمام المناسب.