بعض صور - خولة مطر - بوابة الشروق
الإثنين 23 ديسمبر 2024 3:45 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بعض صور

نشر فى : الأحد 9 ديسمبر 2018 - 11:40 م | آخر تحديث : الأحد 9 ديسمبر 2018 - 11:40 م

سقط خبر وفاتها كما كل الأخبار بين سيل من وصلات الردح والرقص والتفاهات التى تزدحم بها وسائل التواصل بيننا.. لم يسقط سهوا هذه المرة بل جاءت ورقة النعوة سوداء ككل إعلانات العزاء ومتوجة بنفس تلك الآية «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى ربك راضية مرضية فادخلى فى عبادى وادخلى جنتى».
***
وقفت عند الخبر لحظات كدت أصرخ من الوجع رغم أننى وهى لم نلتق منذ سنين إلا فى تقاطعات الزيارات العائلية فى المناسبات الحزينة مثل التعازى بوفاتها الآن.. هى لا تزال صورة من صور الطفولة فى المحرق لا يمكن أن تسرقها الأيام ولا التشرد والتنقل فى بقاع الأرض الواسعة ولا المدن المهدمة والأخرى المزينة بأنوار من الفرح.. صور تبعد عن الذاكرة ربما لسنين وفى لحظة كمثل هذه التى قرأت فيها الخبر، تقفز وكأنها كانت بالأمس.. تقف هى الطفلة بحوش بيت العائلة تنادى على فأنظر من السطح حيث كان القسم الخاص بعائلتنا وأجرى سريعا.. نمسك بأيادى بعضنا ونجرى بين الأزقة المليئة بروائح الأكل الطيب أو البخور والعود أو حتى تلك القادمة من محلات البقالة بكل أنواع البهارات.. نبعد قبل أن تكتشف الأم أو الجدة أن تلك الطفلة خرجت دون إذن. لم يكن معتادا أن يخرج الأطفال دون إذن مسبق، لم يكن للأطفال خاصة الفتيات مكان للعب أفضل من حوش «البيت العود» فيلعبن «السكينة» أو غيرها من اللعب التى توصف بالنعومة المناسبة لهن.
***
تتعرج الأزقة بين حائط منزل وآخر وفجأة ينتهى ذاك «الداعوس» إلى فضاء البحر وعند حافته منزل بشرفات محيطة بكل الغرف لا يكدر خدرها ذاك سوى نسمة رطبة وبعض النوارس المتربعة على الصخور المواربة بين الموج..
تمسك هى الأكثر جرأة حينها بيدى وتأخذنى نتسلق السلم سريعا إلى ذاك المنزل الذى تحول مؤخرا إلى متحف.. ربما كنا، أنا وهى، الوحيدات من الأطفال اللاتى تجرأن لاقتحام تلك المساحة حيث تسكن تلك السيدة الجميلة، أو هكذا كنا نتصورها، وكانت شديدة الطيبة، فكلما زرناها تخرج من تحت السرير الحديدى بغرفتها صينية مليئة بكل ما لذ وطاب من الحلويات الملونة.. تحمل كمية بيدها وتضعها فى كف كل واحدة منا.. كم كنا نتمنى أن تحمل أيادينا الصغيرة كميات أكبر.. كم كنا نضحك بعدها ونجرى نداعب الريح اللاعبة بتلك الشرفات المشرعة على البحر الممتد لا يعكر صفوه إلا سفننا الشراعية «البواني» كما كنا نتصور اسمها أو سمعناه من بعض الكبار.
***
تمر اللحظات سريعة ونحن منغمستان فى ألعابنا الصغيرة مثلنا، هى كانت مليئة بالبراءة.. تجلس تلك السيدة الجميلة بثوبها ناصع البياض تراقبنا بنظرات مليئة ربما بالفرح ربما بالحسرة لم نكن نكترث، لم يكن يعنينا منها سوى شرفات منزلها، مساحات لعبنا ولهونا البريء وتلك الحلويات الملونة فى الصينية تحت السرير الحديدى.. فوق السرير شراشف زرقاء ربما أو هى تفاصيل يرسمها الخيال عندما تخونه الذاكرة أو حتى عندما نكتشف أننا فى طفولتنا لم نكن نكترث للتفاصيل أحيانا خاصة الماديات منها.. شراشف زرقاء مطرزة بورود بخيوط بيضاء وتبدو متناسقة مع ثوبها الأبيض وضفائرها بشعرها كاحل السواد وعينيها السوداوين أيضا.
***
عندما يدركنا الوقت نجرى خوفا من القادم وفى كل مرة نعرف أن العقاب شديد ولكن مذاق الحلويات تحت اللسان تبقى هى الأقوى والأكثر إغراء.. تنادينا تلك النسمة المعطرة برائحة آخر موجة احتضنت جدران ذاك البيت، فما نلبث وأن نعود لما يسميه أهلنا حينها «الشيطنة» لم يعرفوا كيف سيتحول أطفالنا إلى شيطنات مختلفة أين منها تلك البراءة الدائمة التى لا تتلوث ولا تتبدل..
***
هكذا سقط خبر نعيها كالطوفان بل كالإعصار فيما انهارت الصور مع كثير من الدمع الدافئ.. لم ألتقها منذ سنين طويلة بل أكاد أقول إننى فقدتها بعد تلك السنين الأولى ولكن بقيت هى فى أجمل مكان بمساحات الذاكرة المكتظة بكثير من الصور الحزينة والأخرى المزعجة.. بقيت هى فى فضاءات البراءة التى لم يستطع كل ذاك القبح القادم أن ينهيها بل كالجوهرة أو الدانة تلمع بنقائها كلما كشف عنها الغطاء.. ترحل هى وتبقى تلك الصور أو بقاياها.

خولة مطر  كاتبة صحفية من البحرين
التعليقات