ابحث، بل احفر بكل ما أُوتيت من قوة، وابحث عن نقطة ضوء أو أمل لترسلها عبر رسالة إلى كثيرين هم من يقفون منكسرين، ربما أمام أكبر تحدٍّ للإنسانية والبشرية فى هذا الزمن. ابحث أكثر، بل انبش بين كل أجزاء الأجساد والأصوات القادمة، وسط كل هذا الضجيج الصامت.. أم هو صمت الضجيج؟! حاول أن تجد بصيصًا - ولو بسيطًا - من ضوءٍ يبدو خافتًا جدّا، رغم أنك تعرف أن كل هذا الموت لا بد أن تأتى بعده ولادة جديدة، وكل هذا الدمار يعنى بداية النهاية لذلك الكيان، الذى يعرف كثيرون من أبنائه أنهم مع الوقت، واستمرار حرب الإبادة، يتحولون إلى أكثر المخلوقات كراهية لدى شعوب الأرض، حتى ولو وقفت معهم حكومات تسمى نفسها ديمقراطية، أو شركات عابرة للحدود والمحيطات والفضاء كله.
• • •
ألم يقل لك صديقك الجزائرى - ويكررها مرارًا - عندما يغيب كثيرًا ثم يعود، ربما كخدمة من الرب أو القدر ليُذَكِّرك بكيف انتصروا هم؟ وكيف قدموا الملايين من الشهيدات والشهداء؟ ويكررها: «كانت نساؤنا…»، هو مثلى لا يحب كلمة «حرائر»، «كانت نساء الجزائر يُقاومن واقفات كنخيل بلادهن». ثم ينهى المكالمة، وبلطف شديد يشكرنى، فلا أفهم لماذا الشكر، فيرد: «لأنه كلما تحدثنا أجد بين تفاصيل حديثنا بعض الأمل»، ويتمتم وكأنه يحدث نفسه: «أمر لا أجده بين كثير من الدبلوماسيين العرب حولى، وهم كثر».
• • •
تنتابك حالة من الاشمئزاز وأنت جالس فى تلك الزاوية، تنتظر أن تُنهى قهوتك أو اللقاء، وفيما ينشغل الجميع حول المائدة بهواتفهم، تتجول بنظرك حول الموائد المرصوصة، وكلها مكتظة بنساء ورجال وأحيانًا أطفال، كلهم مشغولون بتصوير انبهارهم بالمكان أو الأكلة اللذيذة ونشرها على وسائل التواصل. لا تعرف لماذا يضيق نَفَسك، وتنتابك حالة من الرغبة فى سكب القهوة على رءوس كل المتربعين على عروش الموائد، وترحل من كل هذه الأمكنة... لا تعرف، بل ربما تحاول ألا تنثر أحكامك على مجموعات واسعة تحولت إلى مجرد مخلوقات تعيش على الاستهلاك والجرى للفوز بـ «ترند» عبر تصوير طبق، أو أكلة، أو مطعم، أو مقهى جديد، أو حتى وجهة لإجازة صيفية منعشة... هل استمتعتم بمصيفكم؟ وتسوّقتم فى إجازتكم؟ واستلقيتم على شواطئ البحر الأزرق؟ فيما هم يغرقون فى دمائهم وعتمة هذا الزمن؟؟؟
• • •
إنه زمن آخر، لا يشبه ما تعلمته فى مدارسك، ولا ما حاول أهلك غرسه فى باطن عقلك وقلبك، ولا ما لقّنك الزمن من دروس كثيرٌ منها لم يكن سهلًا أبدًا، بل أكثر صعوبة من المشى فوق الماء. إنه زمن يخجل فيه معلم القانون الدولى من طلابه، ويقف الباحث حائرًا: هل يُكمل أطروحته بالاستشهاد بالمراجع والمعايير العالمية فى العدالة وحقوق الإنسان؟ ويراقب الصحفى والإعلامى المشهد الذى يقدمه رجال ونساء إعلامنا الشهيرات والشهيرين أمام ما درسوه فى كتبهم وكلياتهم، وتعلموه على أيدى أولئك الذين رحلوا حاملين أقلامهم كراياتٍ للبحث خلف الخبر والحقيقة التى ليست بوجه واحد، كما يعرضه المتحكم والمسيطر وصاحب المال والنفوذ.. وهم فى مجملهم ليسوا بعيدين، فقد تزوج الحُكم من رأس المال، وأصبحت السلطة السياسية والاقتصادية والثقافية والمعرفية كلها يدًا بيد، فى قبضة حفنة من رجال ونساء لا يتوارون عن إبراز ثرواتهم وبذخهم فى زمنٍ شَحَّتْ فيه كسرة الخبز أو مُنعت!!!
• • •
تستفيق من يقظة البحث إلى واقع الطرق على الأوانى.. تلك الحالة التى وصل صداها من غزة حتى نيوزيلندا وأستراليا، كشكل من الاحتجاج على حصار وتجويع وإبادة أهل غزة. ترتفع الأصوات بكل اللغات: «أنهوا حصار غزة!»، «افتحوا المعابر التى تغلقها اسرائيل لتمر المساعدات الإنسانية!»، "أوقفوا الإبادة!»غزة.. تلك التى وحّدتهم جميعًا أمام جوعها وعطشها وموتها وقتل أبنائها، هى الوحيدة التى تقاوم الآن بتوحيد الكون ليقف أمام هذا الحصار، حيث الجوع سلاح إبادة، والعطش أكثر فتكًا من صواريخ «حوليت» و«يتيد»، أو المدرعة «إيتان».
• • •
حصارٌ أنهى ما تبقى من رمق لدى الهيئات الإنسانية الدولية، وحوّلها هى الأخرى إلى مجرد شكل من أشكال العبث، فى غرف وقاعات يكثر فيها الصراخ والمطالب والخطابات الممجوجة. فكيف تستغيث الهيئات الإنسانية عند مجرم حرب؟! بل تجرى وترسل الصرخات نفسها، ربما ببعض التغيير لعبارة هنا أو هناك، وهى نفسها مسئولة - ربما بشكل أو بآخر - عن تلك الحرب، التى لم تُوَجَّه لها أصابع الاتهام من قبل كثير من الباحثين والمطلعين، لأنها ترفض حتى الآن أن تُعلن أن غزة منطقة منكوبة بالمجاعة، وتكتفى باللعب والالتواء خلف الكلمات، والتخفى خلف الأحرف...
• • •
لا أحد سيكون فوق الحساب بعد غزة. فكلهم، بل كلنا، سنقف هناك يومًا، محاولين أن نفسر كيف وقفنا صامتين والإبادة تصرخ فى وجوهنا، واضحة كالشمس... كيف؟؟؟