سأل ستافان دى ميستورا، المبعوث السابق للأمم المتحدة لسوريا فى منتصف 2015 من التقاهم من السوريين أفرادا ومجموعات وبكل جدية إن كانوا يقبلون أن يتفاوضوا سياسيا مع «الدولة الإسلامية» المزعومة والتى كانت تحتل جزءا ملحوظا من الأرض السورية؟ اليوم، لم يعُد لهذا السؤال من معنى، إذ جرى التفاوض معها فقط بالسلاح من قبل اللاعبين المحليين الثلاث: السلطة و«قوات سوريا الديمقراطية» و«المعارضة»، ودون الخوض فى تعريف هؤلاء اللاعبين ومن يدعمهم وتحولاتهم خلال الصراع بهذه التسميات المبسطة. لكن رفض التفاوض السياسى لم ينحصر بـ«داعش»، بل تعداه إلى رفض التفاوض بين «قسد» و«المعارضة» التى لم ترضَ أن تكون الأولى جزءا أصيلا من مشاورات جنيف، وأتى كذلك رفضٌ من قبل السلطة للتفاوض مع الجميع على خلفية اعتبارها أنها وحدها الدولة الشرعية وأن ذهابها إلى جنيف أو موسكو هو فقط للتعامل مع الدول الراعية ولمحاولة احتواء «المعارضين» تحت جناحها.
مع انحسار «داعش» وهزيمتها عسكريا كدولة على يد الجيش السورى وحلفائه غرب الفرات وعلى يد «قسد» وحلفائها الآخرين شرق الفرات، تسارع التفاوض السياسى بين الأطراف الثلاثة المتبقية ولكن خارج إطار الأمم المتحدة وجنيف وحتى منتجع سوتشى، خاصة بعد الإعلان الأمريكى «المُلتبِس» عن الانسحاب من شرق الفرات. محور هذا التفاوض هو مستقبل منطقة «الحكم الذاتى» لـ«قسد» وتجنب اجتياح تركى لشمال هذه المنطقة.
من الصعب تصور نجاح التفاوض بين «المعارضة» و«قسد»، رغم محاولات الدول الراعية، إذ إن من يسيطر على الأرض فى مناطق «المعارضة» هم إما «جبهة النصرة» أو تركيا. وكلاهما يعتبر صراعه مع «قسد» وجوديا. أما التفاوض بين السلطة و«قسد» فهو يعنى التوافق على صيغة لـلا مركزية لا تزال طروحاتها متباعدة بين الطرفين، ولا تدخل حتى ضمن سياق «اللجنة الدستورية» المزمع تشكيلها من قبل الأمم المتحدة كخطوة أولى «للانتقال السياسى». ولكن أهم من ذلك هناك التوافق على ضم «قسد» إلى الجيش السورى، ربما فى فرقة خاصة، كما فعل الروس من خلال تشكيل الفرقة الخامسة من الميليشيات التى قاتلت مع الجيش السورى والفرقة السادسة من فصائل «المعارضة» بعد إنهاء الوضع فى جنوب سوريا ووسطها من خلال «المصالحة». فى كل الحالات لا يمكن تواجد قيادات عسكرية وأمنية مرجعيتها متباعدة ضمن دولة واحدة ذات سيادة.. واحدة.
***
من اللافت أن تعود السياسة مع هزيمة «داعش» بعد أن غابت حقيقة عن سوريا منذ صيف 2012. حيث أطلق المبعوث الأممى حينها كوفى عنان مبادرته الشهيرة لتجنب تحول الانتفاضة إلى حرب أهلية. وكانت تلك المبادرة ذات نقاط ست قد لاقت توافقا دوليا سُمى حينها «وثيقة جنيف 1» وتوافقا آخر بين أطراف «المعارضة»، بما فيها ما شكل بعد ذلك «قسد»، فى «عهدٍ وطنى» كأساس للتفاوض السياسى مع السلطة. وفعلا أدت الخطوة السورية إلى تفاوضٍ غير مُعلَن بعيدها بوساطة مؤسسة تابعة للفاتيكان بين جزءٍ من «المعارضة» وجزءٍ من السلطة انتهت بعد أسابيع قليلة من خلال اغتيال أغلب المتفاوضين من طرف السلطة فى تفجير ما عُرِفَ بـ«خلية الأزمة» من ناحية ودخول «لواء التوحيد» من تركيا لإطلاق «حرب التحرير» من ناحية أخرى. وأخيرا عبر إعلان بعض الدول أن «المجلس الوطنى» المعارض هو الممثل الشرعى والوحيد للشعب السورى شهورا قبل استبداله بـ«الائتلاف». ومنذ ذلك الوقت لم يكُن التفاوض حقا، بين السوريين وبين الدول التى انطلقت للتصارع بالوكالة على الأرض السورية، سوى عسكريا. تخللت ذلك الصراع محطات للتفاوض بين الدول للإقرار بالتغيرات الميدانية وتجنب انفلات الصراع الإقليمى والدولى، أقله بين تركيا وإيران، وأكثره بين روسيا والولايات المتحدة.
أما جولات جنيف بين السوريين، تحت رعاية الأمم المتحدة، فقد طغت الأحداث العسكرية على موضوعاتها المطروحة رسميا، بصيغة «سلل أربع» أو «دستور جديد». وبقيت يومها معلقة بانتظار التعامل مع «حصار شرق حلب» أو «معارك الجنوب». وتبقى اليوم معلقة بانتظار تفاوض السلطة و«قسد» والانسحاب الأمريكى. فقط جرى فى جولات جنيف تحفيز السوريين للتفكير حول مستقبلهم وأنهت مقولات بعض الدول فى 2012 أن «المعارضة»، «مجلسا وطنيا» أو «ائتلافا»، هى الممثل الشرعى والوحيد، كما حددت إمكانية أن تنتصر السلطة سياسيا بشكلٍ مُطلَق فقط لأن الجيش السورى انتصر على الإرهاب بدعمٍ روسى. لكن كما انتصرت «قسد» عسكريا على «داعش» بدعمٍ أمريكى فهذا لا يعنى هذا أنها ستحقق انتصارا سياسيا كما ترغبه.
***
سوريا اليوم أمام مفترق طرق جديد ليس أكيدا أن يؤدى إلى عودة السياسة حتى بين الطرفين صاحبى المصلحة. كلاهما فى مأزق إذا تمسكا بمواقفهما، خاصة وأن فى ذهنيهما التضحيات التى بذلاها للوصول إلى ما وصلا إليه. مآزق لا يمكن حلها إلا عبر التفاوض العسكرى وإن بشكلٍ غير مباشر. لكن نجاح هذا التفاوض، حتى بشكلٍ جزئى، خاصة إن أتى مع مباركة من الأمم المتحدة حفاظا على وحدة سوريا، قد يؤدى إلى انفراجٍ كبير فى الأزمة السورية. لأنه يعنى فى خلفياته أن التفاوض الآخر مع «المعارضة» وتركيا قد أضحى مفتوحا.
لكن كى تعود السياسة لا بد لجميع الأطراف السورية أن تعود إلى الأسس، التى هى أصلا المواضيع الجوهرية لدستورِ جديد. ما الذى تعنيه وحدة الأراضى السورية وسيادة الدولة على الأرض؟ وما المعنى بأن السلطة تنبع من الشعب؟ وما الذى تعنيه المساواة فى المواطنة؟ وهل التضحيات التى بُذِلَت هى تضحيات كل السوريين من أجل سوريا أم تضحيات من أجل هيمنة رئيسٍ ما إلى الأبد أو هيمنة مكونٍ سورى على جزءٍ أو كلٍ من الأرض أو فرض هيمنة مذهبٍ أو قومية على مستقبل بلد أو أخيرا لخدمة مصالح هذا البلد الإقليمى أو الدولى أو ذاك؟
مفترق طرق نحو السياسة.. لكنه ينتظر عودة سوريين إلى سياسة تعنى كل سوريا وكل السوريين أولا وقبل كل شىء.