التغيير لا يحتمل التأخير - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:44 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التغيير لا يحتمل التأخير

نشر فى : الأربعاء 10 يونيو 2009 - 8:08 م | آخر تحديث : الأربعاء 10 يونيو 2009 - 8:08 م

 لا خلاف على أن مصر مقبلة على تغيير لا بد أن يكون وشيكا. ولا خلاف شديد على ضرورات هذا التغيير. الخلاف، إن وجد، فسيكون من نوع خلافات الرأى حول الجهة أو الجهات التى يجب أن تقود التغيير، أو حول المؤسسة التى سوف تتحمل أكثر من غيرها مسئولية اتخاذ قرارات التغيير وتحديد أبعاده. نسمع من يقول إن التغيير مسألة مطروحة منذ سنوات، وأن تغييرا ما تقرر بالفعل وجرى تنفيذ الممكن منه. فما الدافع أو الدوافع وراء هذه الضجة المثارة حول ضرورات تغيير أوسع وأشمل ووراء الجدل الدائر حول احتمالات وقوعه فى غضون وقت أقصر مما كان الكثيرون يحلمون أو يتوقعون؟

الدوافع كثيرة ويصعب إنكار أن بعضها شديد الإلحاح، تتداول فيه الآلة الإعلامية ويناقشه الناس على اختلاف مشاربهم وتبنى عليه القوى الأجنبية خططها ذات الصلة من بعيد أو قريب بمستقبل مصر والمنطقة بأسرها. مع ذلك لا يجوز إغفال أهمية عامل لا يدخل عادة ضمن الحسابات المعلنة والمتعلقة بالاستقرار والتغيير فى مصر.

تصرفنا لمدة غير قصيرة فى علاقاتنا الإقليمية والدولية على أساس أن الثبات (بمعنى الركود) فى السياسة المصرية ضمان أكيد لاستقرار جميع قوى «الوضع القائم» والمناهضة للتغيير، وهى ذاتها القوى التى يعنيها الأمريكيون حين يتحدثون عن معسكر الاعتدال فى الشرق الأوسط. يتخذ هذا المعسكر شكل مروحة طرفها فى تركيا وطرفها الآخر فى الجزيرة العربية وقلبها، أو بالأحرى مقبضها، فى مصر وإسرائيل وشعب وأراضٍ تسير شئونه وشئونها السلطة الفلسطينية وفى الأردن. وفجأة ظهر أوباما يحمل مشعل التغيير فإذا به يجدد فى أنحاء كثيرة من العالم، والشرق الأوسط بصفة خاصة، الرغبة والأمل فى استنهاض عمليات التغيير المجتمعى والسياسى التى نشطت فى عدة دول عربية ومنها مصر لفترة قبل أن تنكفئ. انكفأت عندما استفادت حكومات غير ديمقراطية من اجتماع كراهيتها مع كراهية الشعوب لبوش ولسياسات أمريكا الخارجية.

لا يختلف اثنان على أن رحلة أوباما وجماعته إلى مصر أثّرت وأثْرت. أثّرت حين فجرت مرة أخرى وبشدة النقاش حول ضرورات التغيير فى النظام السياسى المصرى. وأثْرت حين أثارت أسئلة وموضوعات عمقت هذا النقاش وقفزت به فوق عتبات متعددة نحو البحث فى الاحتمالات والبدائل.

ليس خافيا، أنه فى أعقاب رحلة باراك أوباما وما خلفته من انطباعات من جميع الأنواع واهتمام من جميع التيارات، شعرنا بالدماء تحاول أن تجرى مرة أخرى فى بعض شرايين النظام المصرى، وأقصد بالتحديد أفرعه السياسية والبيروقراطية، وتأكدنا فى الوقت نفسه من أن شرايين أخرى تجلطت فيها دماء كثيرة وأن هذا الجسم السياسى لن يعود إلى جزء من حيويته إلا بتسييل هذه الجلطات وإزالة أكبر عدد ممكن من عوائق الحيوية والنشاط. كانت الرحلة، بأبعادها المختلفة، فرصة لنتأمل الحقيقة، وإن مختلطة بمرارة، وهى أن ما جرى تنفيذه من التغيير الذى وعدت به السلطة الحاكمة لم يساعد البلد على استعادة عافيتها، بل ارتفعت قابلية الدم للتجلط وانسدت شرايين أكثر.

سمعت أجنبيا متخصصا فى شئون مصر يقول إن جماعة أوباما أوضحت لعدد من الحكومات العربية حرصها على استمرار تقديم الدعم والحماية لها طالما كانت هذه الحكومات قادرة على تنفيذ ما تعهدت لأمريكا القيام به. كان هذا التوضيح، وقد ورد فى رسالة أوباما الناعمة بجلاء شديد وبخشونة لم تخطئها الأذن الواعية ولا العين المدققة، بمثابة إنذار مبكر بأن عدم القدرة على التنفيذ سيجبر واشنطن على التدخل لإحداث تغيير يأتى بمن تثق فى حيازته لهذه القدرة.

المعروف أو المفهوم فى جميع الأوساط الغربية والإسرائيلية وأوساط عربية أن مصر التزمت التزاما موثقا بعدم تعريض أمن إسرائيل لأى أخطار تهدده من خارجها. وكان معروفا أو مفهوما أن واشنطن التزمت فى المقابل بدعم نظام الحكم الذى يثبت توفر القدرة لديه على تنفيذ هذا الالتزام. ولا يوجد فى تطورات العقود الأخيرة ما يشكك فى صدق التزام مصر تنفيذ تعهداتها فى هذا الشأن. ولا يوجد فيها ما يشكك فى صدق التزام واشنطن تنفيذ المقابل علما بأن بعض التوتر الذى شاب العلاقات بين الدولتين لم يمس فى أى يوم العلاقات على المستوى الاستراتيجى، فهذه كانت ــ ولا تزال ــ فوق التوترات عادية المستوى. كان مسموحا بتجاوزات ثانوية من جانب أطراف الالتزام الثلاثة بشرط ألا تؤثر هذه التجاوزات على القدرة على تنفيذ الالتزام لتبقى القدرة قائمة وكافية ولا تشوبها شائبة. وبالفعل نجحت الأطراف لفترة طويلة وإلى حد كبير، وأحيانا بتكلفة باهظة، فى «تحصين» التزاماتها ضد جميع أنواع الاختراق من جانب قوى وتيارات داخل الحدود، ومن جانب قوى وتيارات إقليمية ودينية عابرة للحدود.

وكان العائد، بالتأكيد، إيجابيا لصالح إسرائيل التى حققت توسعا هائلا فى عدد المستوطنات ومضاعفة قواتها العسكرية والنووية وبسط نفوذ أوسع فى الإقليم وفرض علاقات متنوعة على دول عربية متزايدة العدد. وحققت لنفسها مكانة أعظم بين الدول وتصاعدت وتيرة التحسن فى علاقاتها الاقتصادية والسياسية الخارجية إلى حد سمح لها بأن تجبر دولا عديدة على سن تشريعات تمهد فى المستقبل لوأد أى انتقاد يوجه لإسرائيل على ممارساتها ضد الفلسطينيين والعرب والمسلمين عموما. ولا شك أن حجة المحافظة على أمنها، بالإضافة إلى الإصرار على تدويل المبالغة فى رواية المحرقة ورفعها إلى مرتبة القداسة ستجعل إسرائيل بصفة دائمة دولة فوق الدول وفوق الحق والعدل بدعم مطلق من أمريكا. هذا على الأقل هو ما حاول أوباما فى رسالته أن يفرضه علينا غير عابئ بانعكاساته على المنطقة وعلاقات شعوبها بالأنظمة الحاكمة فيها وعلاقاتها بالولايات المتحدة وهى العلاقات التى جاء إلى القاهرة من أجل تحسينها. كانت فقرة فى خطابه تعمد أوباما أو مستشاروه أن تكون شرسة.

ولا نستطيع بأى قدر من الموضوعية القول بأن مصر بالذات حققت من وراء هذا الالتزام ما يعادل أو حتى يقترب مما حققته إسرائيل. يكفى أن نقارن الدور الإسرائيلى المتصاعد إقليميا ودوليا ودور مصر المتهابط إقليميا ودوليا، أو نقارن بين ما استطاعت أن تحققه إسرائيل على صعيد دعم الديمقراطية الداخلية وتداول السلطة فيها مستفيدة من الالتزام المصرى الأردنى الأمريكى بحماية أمنها، وبين ما فشلت مصر فى تحقيقه على صعيد بناء الديمقراطية أو وضع تقليد لتداول السلطة وإلغاء حالة الطوارئ وتحقيق عدالة اجتماعية. بمعنى آخر، تقدمت إسرائيل بفضل قدرة حكومات مصر والأردن والدول العربية الأخرى التى ألمح أوباما إلى أنها تقول سرا ما لا تقوله علنا على تنفيذ التزامها حماية أمن إسرائيل، وتباطأ تقدم مصر بسبب استنزاف طاقة الدولة فى حفظ الأمن الداخلى والدفاع عن تقهقر الدور الإقليمى والدولى وجهود مواجهة الغضب الناتج عن توحش السياسة الأمريكية والإسرائيلية.

أدى هذا التفاوت فى عوائد الالتزام بين أطرافه وأدت تطورات أخرى وقعت فى مصر والمنطقة العربية والإسلامية إلى إثارة الشكوك حول قدرة النظام الحاكم على الاستمرار فى تنفيذ تعهداته بالكفاءة نفسها التى عهدها فيه الطرفان الآخران على امتداد العقود الثلاثة الماضية. يعترف خبراء أمريكيون وأوروبيون بأنهم غير واثقين من أن تغييرات شكلية أو سطحية فى هيكل نظام الحكم فى مصر أو فى أشخاص الجماعة المهيمنة سوف تكون كافية هذه المرة لطمأنة إسرائيل وأمريكا على مستقبل الالتزام المصرى. وذهب أحدهم إلى أبعد من النص الذى وردت به رسالة أوباما إلى العالم الإسلامى ليقول إن أوباما أراد أن يبلغ القيادة السياسية المصرية تحديدا أن أمريكا تنتظر مضاعفة جهود مصر من أجل صنع إجماع عربى جديد وفاعل ومعلن ضامن لسلامة إسرائيل وأمنها.

ولا حجة للمترددين من العرب بعد أن وعد أوباما بأنه سيحصل من إسرائيل على تنازل خطير يحتاج اتخاذه إلى شجاعة فائقة، أما التنازل المطلوب فى مقابله الاستسلام العربى لإرادة إسرائيل فهو وقف بناء المستوطنات، هذه المستوطنات التى لم يعتبرها أوباما فى رسالته غير شرعية أو عقبة فى طريق السلام.
كنا نقول إن العالم عاش فى ظل بوش ثمانى سنوات تعيسة. وسنقول ذات يوم إن العرب عاشوا فى ظل أوباما سنوات صعبة.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي