حفيدى وأنا، بالتأكيد مختلفان. لا أقصد اختلاف الشكل والاهتمامات والميول أو الاختلاف بين شاب صغير السن وآخر متقدم فى السن. ولكنى أقصد الاختلاف بيننا هو كما هو الآن وأنا عندما كنت شابا فى مثل عمره.
أكاد، مع المقارنة، أكون قد اقتنعت أخيرا بأن الطبيعة البشرية تغيرت منذ اختراع الإنترنت.
أحيانا لا أرى وجه شبه واحد بينى وبين حفيدى وحفيدتى. يتفاعلان مع الآخرين بطريقة مختلفة اختلافا تاما عن طريقة تفاعلنا فى الماضى مع رفاقنا. أتساءل فى أحيان أخرى إن كانت البشرية بهذا الشباب قد ارتقت فاقتربت من حد الكمال الإنسانى أم تدهورت فانحدرت إلى هاوية التخلف الحضارى والثقافى. ولماذا أقارن نفسى بأحفادى.
أنا إذا قارنت نفسى اليوم بنفسى فى الماضى فسوف أكتشف اختلافات شاسعة. أنا، كما أنا الآن، مختلف سياسيا وإنسانيا وأخلاقيا وعاطفيا ليس بفعل السن؟ أنا مختلف لأننى، كما أنا الآن، صرت أعرف عن الحياة بفضل الإنترنت أكثر من كل ما تعلمته على أيديها على مر العقود التى سبقت ظهوره. أعرف الكثير وإن كان ما أعرفه لايزال أقل كثيرا مما يعرفه شباب هذه الأيام الذين ولدوا ونشأوا فى عصر الإنترنت. أعترف، ولا أخجل من هذا الاعتراف، أعترف بأنه خلال مناقشاتنا العائلية ومن خلال ما يصل إلى سمعى من همس الهاتف أن هؤلاء الشباب يعرفون تفاصيل أمور حياتية أنا شخصيا لا أعرف كل ما يعرفون. لاحظت أننى صرت أتردد فى توجيه نصيحة فى السلوك أو فى غيره، خشية أن أبدو أمام الشباب «قاصرا» أو «جاهلا» أو فى أحسن الأحوال أقل تحضرا.
***
كنا، فى أيام شبابنا، كشباب كل العصور التى سبقت عصرنا، نحلم. كانت لحظات الحلم أسعد أوقاتنا. ولكن كنا، أو الكثيرون منا، حريصين على الفصل بين الحقيقة والحلم، نعيش الحلم بعض الوقت ونعيش الحقيقة معظم الوقت. المدهش فى شباب هذه الأيام أنهم يعيشون الحلم كحقيقة.
اختلط لديهم العالم الافتراضى الذى يعيشون فيه طول الوقت، منذ اللحظة التى يفتحون فيها عيونهم حتى لحظة الاستغراق فى النوم، بالعالم الحقيقى الذى يعيشون على هامشه مجبرين وغير مخيرين. لا أحد منهم يشكو العيش فى عالم افتراضى، ولا أظن أن أحدا منهم يدرك قيمة ما فقدوه. فقدوا متعة «الحلم». هم لا يحلمون. لم يحلموا منذ أن سيطر الإنترنت على عقولهم وعواطفهم ووقتهم، ولكنهم والحق يقال اكتسبوا مهارات وخبرات لم نكتسبها ونحن فى عمرهم.
***
هم بلاشك أشد جرأة منا. صوتهم أعلى. هم أكثر صراحة فى توجيه الانتقاد وأصلب عودا فى المطالبة بحقوقهم وأشد حرصا على حرية التعبير داخل العائلة وفى المجتمع. السلطة، أى سلطة، تعيش فى عالم لا يهمهم وهدفها الأعظم قمع الشباب لأنهم بحكم انتمائهم لعالم افتراضى هم خارج دائرة نفوذ هذه السلطة. تعلموا من الإنترنت الجدل والتمسك بالموقف وقوة العزم، تعلموا أيضا القدرة على أن «يتمثلوا» شخصيات عديدة ومتناقضة أحيانا فى وقت واحد.
نرى هذا بوضوح ونحن نقارن بين سلوكيات الشباب على الفيسبوك وسلوكياتهم على التويتر وسلوكياتهم فى المدرسة والجامعة وفى العمل، لكل حالة شخصيتها ولكل حالة لغة خاصة. لا ننسى بأى حال حقيقة أنهم هم الذين يتحملون فى هذه اللحظة مسئولية صياغة لغة جديدة، لغة ليست قريبة من الفصحى ولا قريبة من اللغة العامية. هى لغة أقرب ما يمكن للغة الصور والرموز التى استخدمها الأقدمون، الصور وسيلتهم للإقناع، وكذلك الكلمات الصغيرة المشفرة بالرموز. كلاهما: الصور والرموز، أصبحنا نعرف، كما كتبت دانا بويد الأستاذة بجامعة نيويورك والخبيرة فى مايكروسوفت، تصل إلى العقل قبل الأفكار.
***
تقول بويد إن الشباب أقبل على الإنترنت متأثرا بجاذبية «الدراما» المحيطة به. لا جدال فى أن الإنترنت قد «حرر» الشباب من «قمع» الآباء والأمهات والمدرسين والمشرفين الاجتماعيين والمربيات الأسيويات. بفضل الإنترنت الذى يحملونه فى جيوبهم أصبح الطلبة يجدون المدرسة أقل مللا، ويجدون أهاليهم أقل إزعاجا وفضولا. يفضلون الجلوس مع أجهزتهم الإلكترونية عن الجلوس مع الأهل الذين لا يتوانون عن توجيه الأسئلة والاستفسار عن خبايا حياة أبنائهم وبناتهم. من ناحية أخرى أتاح الإنترنت للشاب الحق والحرية الكاملة فى اختيار أصدقائه واستبدالهم كما يشاء ومتى يشاء.
أسمع عن قلق الأهل، يشكون أن الشباب خرجوا عن الطوع. أعرف، عن تجربة، أن معظم الآباء والأمهات يريدون «جدولة» أنشطة أولادهم وبناتهم. هذه الجدولة مرفوضة من الشباب، وللأهل عذرهم، كما كان لأهالينا عذرهم. لكن بينما كان أهالينا يخافون علينا من «عالم مفترس» ينتظرنا فى الشارع أو فى السفر أو فى صحبة الكبار، أهالى هذه الأيام يخافون من عالم «افتراسى» ينتظر أبناءهم وبناتهم على شبكة طرق الإنترنت.
***
سمعت من يطلق على جيل الشباب المعاصر تعبير جيل التطبيقات Apps بمعنى أن حياة كل شاب أصبحت عبارة عن سلسلة من «التطبيقات»،أى عمليات صاغها الإنترنت يؤديها الشاب طبقا لإجراءات ومخططات محددة سلفا، يمارسها كما يمارس الألعاب الإلكترونية. يعتقد هذا الشاب أن كل ما يلزمه فى هذه الحياة هو بعض الـSoftware يحقق بها أحلامه وسعادته واستقراره. هذه التطبيقات تختصر له المسافات إلى أهدافه. شاب الإنترنت لا يريد أن يفكر، يريد «تطبيقا» جاهزا. هكذا ينشأ طفل الإنترنت الكسول ذهنيا، ويكبر ليصير شابا كسول ذهنيا لا يريد المخاطرة، ويكبر أكثر فيصير رجلا فاقد القدرة على أن يتخيل ويحلم.هذا الإنسان هو فى الحقيقة لا يختلف كثيرا عن المتطرف دينيا الذى قتل تشدده خياله بل وإيمانه، فالإيمان ليس كله طاعة عمياء بل طاعة وخيال خلاق.
فقدوا الملل، فقدوه فى المدرسة وفى الجامعة وفى البيت، فقدوا معه، وهم لا يدركون، ملكة التركيز والانتباه. يكتب مارتين هايديجر عن الشعور بالملل العميق فيقول إن عديد العباقرة توصلوا إلى إبداعاتهم الفكرية واختراعاتهم فى لحظات ملل، توصلوا إليها وهم فى انتظار قطار أو جلوس على مقهى، أو منفردين بالسكون وأجواء الخصوصية. هل نشكر الإنترنت أم نعتب عليه، أزاح الملل من حياتنا ومعه فرص الإبداع والاختراع. بدونهما لا نهضة ولا تقدم بالسرعة المطلوبة.
***
لا عودة إلى الوراء. العالم يتغير وأسباب القلق تتغير. كنا نخاف على كبير السن من أن تخونه الذاكرة أو تضعف فيضيع فى الطريق أو فى الحديث، الآن نخاف على الشاب أو صغير السن من أن يفقد هاتفه الذكى فيضيع فى الطريق أو فى الحياة برمتها.