قدمت المجتمعات القبلية نموذجا فى الصراع كان الظن أنه انقرض مع تطور سياسات الاندماج والتكامل. ففى الظروف العادية، وأقصد حين تهمد الصراعات الأيديولوجية وتنحسر الفورات الدينية وتهدأ طموحات الزعماء المحليين وتتناثر بغير نظام عصابات قطاع الطرق، وحين تتراجع التجارة وتتمدد أو تكثر فترات الكساد ــ فى هذه الظروف مجتمعة أو متفرقة كانت القبيلة فى عصر القبائل تتفادى تشكيل تحالفات من قبائل عديدة وقوية وإنما تلجأ إلى صنع تحالفات بسيطة ومرنة مع قبيلة أخرى أو عدد محدود جدا من القبائل المتاخمة لها أو الواقعة على طرق القوافل لمساعدتها على مواجهة مشكلة عارضة كنوبة جفاف مثلا أو غزوة جراد أو مشاغبات تمرد.
أنا لم أستهن بالرئيس دونالد ترامب ولا بعهده أو لوائحه اليومية ومناوراته السياسية وقاعدته الشعبية. وما زلت غير مستهين. هذا الرجل، فى رأيى الشخصى، نموذج كاشف لذروة مرحلة تنتقل فيها قوة عظمى، أو قوة أعظم، إلى مصاف دولة أقل عظمة. قد يرى المنقب فى زوايا التاريخ المعاصر أمثلة ربما أقل وضوحا من مرحلة تمر بها الولايات المتحدة وربما أكثر أهمية وأشد تأثيرا فيما حولها. هناك فى زاوية من زوايا هذا التاريخ عثر مؤرخون وعلماء علاقات دولية على نموذج انتقال ألمانيا بين الحربين العالميتين وانتقالها مرة أخرى برعاية أمريكية بعد الحرب العالمية الثانية. وفى زاوية أخرى هناك انتقالات متعددة أحدها بدأ بالحرب التى شنها بسمارك على فرنسا. هذه الأخيرة ــ أقصد فرنسا ــ مارست الانتقال هبوطا ثم صعودا فهبوطا وأخيرا صعودا تشده الآن إلى معاودة الهبوط عناصر عديدة. بريطانيا العظمى قدمت نموذجا مختلفا. عرف قادتها عبر القرون كيف وإلى أى حد يبتعدون عن صراعات وتحالفات القوى الأوروبية. ساعدها موقعها على لعب دور القوة الموازنة فى هذه الصراعات والتحالفات. ساعدها أيضا على اتخاذ قرار الانسحاب ليس فقط فى الوقت المناسب، ولكن أيضا بالحجم المناسب وفى الموقع المناسب وبالتكلفة المناسبة. وقعت أخطاء كالخطأ الشنيع الذى ارتكبه المحافظون البريطانيون بالاندفاع وراء تهيؤات استعمارية قديمة فأشعلوا حربا فى منطقة قناة السويس انتهت بقرارات سرعت خطط تنفيذ الانسحاب من معظم مواقع الإمبراطورية. خرجت بريطانيا من حرب السويس دولة كبرى وليست عظمى وبعد أن ارتبطت بالقوة الأمريكية الصاعدة مطمئنة إلى أن هذا الارتباط سوف يضمن استمرار الهيمنة الأنجلو سكسونية على مختلف تفاعلات القوى الدولية.
خلال مختلف مراحل صعودها لم تخيب أمريكا أمل بريطانيا إلا قليلا، أزعم أن هذا الأمل، أو بعضه، خاب قليلا عندما أو منذ قررت أمريكا غزو العراق. نعرف أن قرار الغزو اتخذته القيادة الأمريكية بتشجيع من حكومة بريطانيا التى فاجأها العجز الأمريكى الشديد فى إدارة نتائج الغزو وفى بلد استمرت بريطانيا تحكمه لعقود عديدة قبل أن يتولى صدام حسين مسئوليته.
لم تبذل أمريكا جهدا مناسبا لإرضاء البريطانيين الذين تصوروا ذات يوم أن الأمريكيين سوف يحتاجون إلى نصائح لندن فى كل خطوة يخطوها حلف الأطلسى. صحيح أن التشاور لم ينقطع من حيث الشكل. إلا أنه لم يمنع الإنجليز من المشاركة فى التخطيط لحرب السويس من دون علم أمريكا، ولم يمنع الأمريكيين من التدخل بحزم لإجبار بريطانيا وفرنسا حليفيها فى حلف الأطلسى على الخروج من مصر.
•••
لم تتمرد بريطانيا على هيمنة واشنطون على حلف الأطلسى. تمردت فرنسا الديجولية، وكان تمردا مفهوم الدوافع والأهداف. لم يغير هذا التمرد من واقع الأمر شيئا. ولم تتمرد ألمانيا فهى المستفيدة الأكبر بلا منازع ولكنها ظلت فى نظر الأعضاء الآخرين المبرر لكى لا يدفعوا أنصبتهم فى موازنة الحلف. ألمانيا لم تدفع بانتظام يذكر وعلى كل حال لم يفسر فى واشنطون على أنه نوع من العصيان على قيادة الحلف والتبرم من أدائه. كان الحلف بعضوية مستقرة فى عدد كبير من دول أوروبا درعا وحماية قوية للقارة ضد غزو سوفييتى دائما محتمل. كان سرا معلنا أن الضمان الحقيقى يكمن فى حضور واستعداد القوة الأمريكية وبقدر قليل جدا فى قوة بقية الأعضاء. لم تكن النخبة الحاكمة الأمريكية قاصرة عن فهم هذه الحقيقة. كانت تفهم أيضا أن إحداث القرون القليلة الماضية أثبتت أن أمن أمريكا القارية فى زمن أدوات الحرب التقليدية يبدأ داخل أوروبا وعلى حدودها الغربية عند شواطئ الأطلسى. تغيرت الأدوات وزال التهديد السوفيتى وحل محله تهديد أقل خطورة من جانب الوريث الروسى، وتهديد آخر بدا للعقول الاستراتيجية الأمريكية أشد خطورة من التهديد الروسى وتهديدات الإرهاب الدولى ألا وهو التهديد الصينى. المثير فى الأمر هو تزامن هذا التغيير فى مصادر التهديد مع الاتجاه نحو التقليل الواضح من أهمية حلف الأطلسى ثم الاهتمام المتزايد بتشكيل تحالفات من دول قليلة العدد. وفى ظنى أن وراء هذا الاتجاه فى الاستراتيجية الأمريكية أسباب أو دوافع منها ما يلى:
أولا: توسعت عضوية وميادين عمل حلف الأطلسى فى العقود الأخيرة بشكل لا يتناسب وحاجاته وأهدافه الأصلية. هذا التوسع تسبب فى تعقيد مهمة القيادة الأمريكية للحلف وبخاصة فى وقت بدا فيه المجتمع الأمريكى عاجزا عن الوفاء بتعهداته ليس فقط لحلفائه ولكن أيضا لمواطنيه، عاجزا أيضا عن إنتاج فرز جديد من قيادات سياسية حصيفة وصبورة. تسبب التوسع فى الحلف أيضا فى ترهله حتى كاد يغيب عن الصورة فى أحوال غير قليلة..
ثانيا: غابت أيضا صورة العدو الهائل الذى يهدد أمن أوروبا وإن لم يغب خوف بعض دويلات شرق أوروبا وبولندا مما يمكن أن تفعله روسيا البوتينية ضد سلامتها واستقرارها.
ثالثا: وصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض محملا بكره شديد للصين بدا وقتها غير مبرر إلا إذا كان الرئيس جاء إلى الحكم مدفوعا بقوى داخلية عسكرية أو يمينية متطرفة. فى الوقت نفسه تعامل الرئيس مع أقرانه فى قمة دول الحلف بتعال وسخرية مستغلا واقع أن الدول لا تسدد الأنصبة المالية المتفق عليها. ظهر واضحا إلى حد كبير أن عددا كبيرا من دول أوروبا بقى لمدة غير قصيرة غير مستعد لاتخاذ مواقف عدائية أو هجومية ضد الصين. أضف إلى ما سبق أن الصين كانت بالنسبة للأوروبيين قوة صاعدة أضافت باقتصادها الكثير إلى مجمل الثروة العالمية. وبالتالى لا يجوز التنكر لهذه الحقيقة أو تجاهل فرصة سانحة لأوروبا لوقف حال الكساد التى طال أمدها.
رابعا: لم ترحب أغلبية دول الحلف بميل القيادة السياسية والعسكرية الأمريكية استخدام قوات الحلف فى أقاليم ونزاعات خارج الإطار الجغرافى التقليدى المتعارف عليه. على كل لم يقدم الحلف فى أغلب تدخلاته نموذجا واحدا مشرفا. ومع ذلك لا يفوتنى الاعتراف بأنه أدى دور الرادع القوى بنجاح، دور ربما ساهم فى الوصول إلى نهاية للحرب الباردة.
خامسا: لم تتوقف الخلافات وعلامات التوتر عن تشويه سمعة العلاقات بين أعضاء الحلف. ففى مرحلة بعينها ساد التوتر فى العلاقات بين دول جنوب أوروبا ودول شمالها. توترت أيضا علاقات اليونان بألمانيا، وصارت حقيقة واقعة أن رئيس وزراء كندا والمستشارة الألمانية كل على حدة ولأسبابه الخاصة يفضل الابتعاد عن الرئيس ترامب خلال مؤتمرات الحلف. كذلك شهد الحلف تصعيدا فى النزاع التقليدى بين اليونان وتركيا وتوترات متزايدة بين الرئيس التركى ودول شرق ووسط أوروبا حول الهجرة والعضوية التركية ومسائل أخرى.
سادسا: راحت أمريكا بوازع منها أو من إنجلترا تحث أستراليا على الانضمام لحلف يجمع ثلاثتهم ويضمن لأستراليا تزويدها بغواصات نووية الطاقة، وهو العرض الذى لم تعرضه أمريكا على عضو فى حلف الناتو حتى فى أصعب مراحل الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتى. أقامت هذا التحالف الثلاثى بسرعة ملفتة، فى الوقت نفسه كانت تتفاوض لإقامة تحالف رباعى مع اليابان والهند بالاضافة إلى أستراليا. على هذا النحو تكون أمريكا قد حققت قفزة معتبرة على طريق التصدى لنجاحات الصين فى المجال العسكرى بالإضافة إلى ما يمكن أن تكون حققته من إنجاز على صعيد بناء الثقة مع أطراف مجموعة آسيان، وبعضها متشكك فى نوايا أمريكا للدفاع عنه.
•••
أتصور أن الجماعة الأمريكية المنشغلة بإعداد التقرير المنتظر بشغف عن الوضع العسكرى فى الصين بعد سنوات من التحديث المكثف وبخاصة فى قطاعات البحرية والفضاء، وفى مختلف قطاعات الذكاء الصناعى، تسعى الآن لمعرفة رد فعل الاستراتيجية الصينية لخطة أمريكا إقامة سلاسل من الأحلاف المصغرة تحيط بالصين بحرا وبرا وفضاء.
اتصور أيضا أننا نشهد حاليا ميلا أمريكيا للتعامل ثنائيا أو مع تحالفات مؤقتة من عدد بسيط من دول متقاربة التفكير والميول فى حالات الحاجة وفى قضايا محددة. تفعل أمريكا هذا مع الدول العربية والإفريقية. أراها تفضل هذا الأسلوب فى تجميع دول على موقف اختارته أو حبذته عن أسلوب التعامل مع المنظمات الإقليمية التى تشترك فى عضويتها هذه الدول. لعل الضعف العام الذى آل إليه التنظيم الإقليمى فى كل أنحاء العالم سبب يقف وراء هذا التفضيل، فضلا عن حال تشرذم العمل الجماعى الدولى والإقليمى بصفة خاصة والتآكل المتواصل فى سمعة وأداء قواعد عمل النظام الدولى التى وضعت وتقررت فى نهاية الحرب العالمية الثانية. أو لعله الضعف الواضح الذى أصاب القدرة الأمريكية المطلقة والنسبية على حد سواء، ولا شك عند كثيرين فى أن مؤتمر قمة المناخ عزز الشعور بهذا الضعف فى القدرة الأمريكية على قيادة المجتمع الدولى، هؤلاء يعودون بالضعف إلى سنوات القطبية الأحادية التى أعقبت انفراط الاتحاد السوفييتى، ففى سنة 1992 وقعت أمريكا على معاهدة التغيير المناخى ولم تقم بواجبها فى تحسين حال المناخ فى أمريكا وفشلها فى قيادة العالم نحو تحقيق هذا الهدف، الأمر الذى ضاعف من تعقيد الأزمة.
يحسب للسيد بايدين على كل حال اعتذاره العلنى بالنيابة عن أمريكا وأمام أكثر من 190 دولة فى جلاسجو عن سوء أداء أمريكا خلال السنوات الماضية.