نشرت مبادرة الإصلاح العربى مقالا للباحث دريس نورى، نعرض منه ما يلى:
بعد تسعة أشهر من الاحتجاجات السلمية، يستمر الحراك الجزائرى فى المطالبة بتغيير جذرى للنظام رافضا الانتخابات الرئاسية المُقرر عقدها يوم 12 ديسمبر القادم كحلّ سياسيّ للأزمة. فى سياق ثورى لم يسبق له مثيل، على ماذا تُراهن السلطة الفعلية لإعادة إنتاج نفسها بأسرع وقت ممكن وبأقل التكاليف؟ وما هى موارد الحراك الشعبى فى مقاومته لإعادة إنتاج النظام لنفسه؟
يواجه الحراك الشعبى تحدّيا جديدا أصعب من إزاحة بوتفليقة من الواجهة، وهو انتزاع التفويض من أيدى السلطة الفعلية وأن يمنعها من استغلال فرصة التخلص من بوتفليقة لإعادة إنتاج النظام بواجهة مدنية جديدة. ولذلك تحوّل الصّراع بعد إسقاط العهدة الخامسة لبوتفليقة ليصبح بين الحراك الشعبى وبين السلطة الفعلية. فرهان هذه الأخيرة هو الوصول إلى رئاسيات مُتحكم فيها من داخل السلطة فى أقرب وقت ممكن، ورهان الحراك هو افتكاك المزيد من الحريات والضمانات التى تسمح بإطلاق تحول ديمقراطى حقيقى.
تحديات ورهانات المرور بالقوة
لماذا هذا الإصرار على انتخابات الثانى عشر من ديسمبر القادم؟ وعلى ماذا تعول السّلطة لتمريرها رغم مقاومة ورفض الحراك لها؟
ــ التحدى القانونى/ الدستورى
تحول الدستور إلى الدرع الحصين الذى تحتمى فيه (وبه) السلطة من (وضدّ) المطالب بمرحلة انتقالية أو مجلس تأسيسى، ومنذ الأيام الأولى من الحراك، والسّلطة الفعلية تُصرّ فى كل خطاب على «الحلّ الدستورى» كضربة استباقية للمطالبين بالحلول السّياسية التى تفرض التحاور والتأسيس لعقد سياسى جديد خارج الهوامش التى يُتيحها الدستور الحالى المفصّل على مقاس السلطة التنفيذية.
تعتقد السلطة أنها تستطيع فى ظل الدستور الحالى، وقانون الانتخابات الحالى، وتشكيلة الجهاز البيروقراطى أن تتفادى أية مفاجأة انتخابية مهما كانت حجم التنازلات الشكلية التى تقدمها كعربون ثقة أمام خصومها. بإمكان شبكاتها البيروقراطية أن تعوض عن التنازلات القانونية التى قدمتها فيما يتعلق بتأسيس سلطة عليا للانتخابات، وبإمكان وسائل الإعلام الثقيلة أن تغطى على ضعف نسب المشاركة فى الرئاسيات، وبإمكان جهاز القضاء أن يصادق على ما تقدمه السلطة من نتائج، بالنظر إلى عدم استسلام النظام أمام مطالب الشارع بتحريرها.
ــ الاستفادة من ضعف هيكلة الحقل السياسى
كانت المطالب بحل حزب جبهة التحرير الوطنى وحزب التجمع الوطنى الديمقراطى من أهم الشعارات التى رفعها المتظاهرون منذ الأيام الأولى للحراك. أدرك الجزائريون جيّدا أن هذه الأحزاب/ الأجهزة، هى أدوات السلطة الفعلية فى إفساد الحقل السياسى، وفى مراقبته وهيكلته بشكل يمنع أية مفاجأة سياسية، ويجعل من إنتاج بديل انتخابى ديمقراطى أمرا مستحيلا.
والسّلطة بدورها أدركت رهانات هذا المطلب وأبعاده، ولذلك، اكتفت بسجن بعض القياديين فى هذه الأحزاب، مع الحفاظ عليها والاستعانة بها بأشكال مختلفة فى تسيير هذه المرحلة حسب درجة الضرر الذى لحِق كل حزب فى فترة بوتفليقة، وحسب الغاية من استخدام كل واحد مِنها.
فى حين أَلزَمت السلطة جبهة التحرير بالصمت وعدم تقديم مُرشح خاص بها أو حتى التعبير عن دعم مرشح بعينه، فإنها فى المقابل دفعت بالتجمع الوطنى الديمقراطى إلى الواجهة، من خلال ترشيح أمينه العام الجديد، وزير الثقافة السابق، عز الدين ميهوبى لينافس عبدالمجيد تبون المترشح الحرّ. على مدار عشرين سنة، حصرت السلطة التنافس الانتخابى بين حزبيها الرئيسين، توزع عليهما المقاعد داخل المجالس المحلية والبرلمان حسب الظروف.
تستخدم السلطة الأحزاب لتمرير المشاريع غير الاجتماعية وغير الشعبية فى البرلمان، ولكن حين يتعلق الأمر بعرض رئيس لانتخابه، فإنها دائما تفضل وضعه فوق الأحزاب وفوق السياسة. كثيرا ما يتدخل الرئيس لإلغاء مشاريع قوانين غير شعبية تقترحها حكومة ترأسها شخصية من أحد الحزبين. تتحمل الأحزاب السياسية أوزار السياسة، فى حين يترفع الرئيس عنها ويصبح حكما، تنسب إليه «الإنجازات»، وتتحمل الأحزاب الإخفاقات والسياسات الفاشلة.
يندرج دفع السلطة الفعلية بعبدالمجيد تبون كمترشح حر، ينافسه السيد ميهوبى كرئيس حزب ذى سمعة سيئة ضمن هذه اللّعبة السياسية التى يراد منها دفع الوعاء الانتخابى التقليدى للسلطة إلى التصويت على مرشح غير متحزب لقطع الطريق أمام وصول رئيس من حزب (أو من أحزاب)، كانت جزءا من المنظومة البوتفليقية التى تبرأت منها السلطة الحالية حين وصفتها بالعصابة.
ــ جهاز بيروقراطى متشعب يتحكم فيه النظام
كانت أحد مطالب الحراك الرئيسية تحويل صلاحيات تنظيم الانتخابات من الإدارة إلى سُلطة مُستقلة تتولى الإشراف على جميع المراحل المتعلقة بالاقتراع. تدرك السلطة أنه حتى وإن استجابت لهذا المطلب، فذلك لن يغير فى الواقع شيئا على الأقل فى المدى المتوسط، مادامت هى من يختار أعضاء هذه اللجنة المستقلة، وهى من يتحكم فى الإدارة التى هى الطرف المنفذ لعملية الانتخابات. فى دولة ريعية مثل الجزائر، يُعتبر الجهاز البيروقراطى الأداة الأساسية لتأطير المجتمع، ومراقبته، وإخضاعه واستقطابه. فى غياب سوق إنتاجية حُرّة، وفى ظلّ ضعف المجتمع المدنى وعدم قدرته على إعادة إنتاج نفسه فى استقلالية عن السلطة/الدولة، ستكون الإدارة وَسِيطا حتميا بين الدولة والمجتمع من جهة، وبين أفراد المجتمع من جهة أخرى. إنّ جميع التبادلات الاجتماعية يجب أن تمر عبر متاهات البيروقراطية. يُعتبر الجهاز البيروقراطى المشغّل الأول فى الجزائر (أكثر من 70%) ومعظم الوعاء الانتخابى المنضبط لأحزاب السّلطة يتشكل من هؤلاء البيروقراطيين الذين يشاركون فى الانتخابات سواء خوفا على مناصبهم أو طمعا فى الترقية والاقتراب أكثر من دوائر توزيع الخيرات والنّعم. مُهمة الجهاز البيروقراطى أيضا المساهمة فى رفع نسبة المشاركة لبلوغ الحدّ الأدنى الذى يجعلها مَقبولة ترفع الحرج عن السّلطة.
إذا تأخر موعد إجراء الانتخابات، فإنّ الأزمة الاقتصادية سوف تدرك السلطة، وقد تكون حينها عاجزة حتى عن دفع أجور عمال الوظيف العمومى، وبالتالى إمكانية خسارة وعاء انتخابى واسع، بل إمكانية تحوّله إلى مصدر إزعاج يهدد الاستقرار الاجتماعى الذى تتغنى به السّلطة.
رهانات.. موارد وحسابات الشّارع
راهنت السُّلطة على وضع الجزائريين أمام الأمر الواقع من خلال الشروع ميدانيا فى تنفيذ الأجندة الانتخابية على أمل أن يدفع ذلك المتظاهرين إلى اليأس والعودة تدريجيا إلى بيوتهم. ولكن الملاحَظ هو تزايد أعداد المتظاهرين وعودة الحراك بقوة بعد الإعلان مُباشرة عن موعد الرئاسيات من طرف رئيس الدّولة المؤقت عبدالقادر بن صالح. يتجلى الأمر كما لو أنّه كلما خَطت السّلطة خطوة إلى الأمام كلما ألّبت ضدّها مزيدا من المتظاهرين والرّافضين لها، وكلما انكشفت نواياها فى إعادة إنتاج نفس المنظومة السّابقة.
ــ النفس الثانى للحراك الشعبى.. ثورة تتغذى من تناقضات النظام
تعكس العودة القوية للمتظاهرين إلى الشارع منذ شهر سبتمبر الماضى تحولا عميقا داخل المجتمع الجزائرى لم تستوعبه السلطة بعد. يُصرّ الجزائريون على التغيير العميق لنمط اشتغال السلطة، بإخضاع هذه الأخيرة للعقاب الانتخابى ومبدأ التداول السلمى عليها.
كلما تقدمت السلطة خطوة صوب الانتخابات، كلما انكشف أكثر التناقض بين خطابها ومُمارساتها، وكلما اتضحت نواياها فى إعادة إنتاج نفس المنظومة السابقة وبنفس الأشخاص الذين كانوا جزءا من نظام بوتفليقة.
يتقوى الموقف الأخلاقى والسياسى للثورة الشعبية من تناقضات السلطة التى طفت على السطح بعد استقالة/إقالة بوتفليقة ومحاولتها ترميم واجهتها المدنية. تحاول السّلطة تجميل صورتها عبر التملص من النظام البوتفليقى وتحميله كل المسئولية، فيما وصلت إليه البلاد، وفى لحظة ضغط شعبى كبيرة، اضطرت إلى وصف رجال بوتفليقة «بالعصابة» و«القوى غير الدستورية» عسى أن يساعد ذلك على استعادة ثقة الجماهير.
ولكن الطريقة التى تمت بها تأسيس سلطة مُستقلة للإشراف على الانتخابات، ونوعية الشخصيات التى وضعت على رأسها، وكذلك طريقة تعامل القضاء مع مُعتقلى الرأى وبعض رموز المعارضة السياسية، ثم نوعية الشّخصيات التى ترشحت للرئاسيات.. كلها عوامل نزعت المصداقية على خطاب السّلطة ووعودها، وكشفت عن عدم قدرتها على تجاوز تناقضاتها وغياب أى تصور حقيقى لانتقال ديمقراطى. لعبت السّلطة على الاختلافات والخلافات الموجودة بين الجزائريين حول طبيعة النّظام الذى يريدون الذهاب إليه لإنقاذ نفسها، ولكنها لم تدرك أن الذى وحّد الجزائريين ضِدّها هو اتفاقهم على ما لا يريدون عودته تحت أى شكل من الأشكال.
باختصار، توجد الجزائر اليوم أمام مشروعين: نظام سياسى يعمل على تجديد واجهته المدنية مهما كلف الأمر، استنزف كل موارده المادية والرمزية، واستهلك رصيده الأخلاقى، ورغم ذلك، يرفض أن يقدم أية تنازلات، واختار المغامرة بوجوه تنتمى كلها إلى العهد البوتفليقى للوصول إلى انتخابات رئاسية فى سياق ثورى لم يسبق له مثيل فى الجزائر المعاصرة. وفى الطرف الآخر، ثورة شعبية سلمية، تزداد قوتها وحجمها كلما خطى النظام خطوة باتجاه الانتخابات.
تعول السلطة على إجراء الانتخابات لدفع الجزائريين إلى العودة إلى منازلهم، ولكن، يبدو أن الحراك ليس مستعجلا مادام محافظا على سلميّته، وما دامت السلطة لا تزال مُلتزمة بعدم قمع المتظاهرين. اجراء الانتخابات بشكلها الحالى بالنسبة للحراك، سوف يزيد من مأزق السلطة ويألب المزيد من الغاضبين ضدّها.
يعول الحراك على إفشال هذه الانتخابات من خلال مقاطعتها ونزع المصداقية عنها، على أمل أن يدفع ذلك الجيش إلى أن يكون الشّريك الوحيد لتنظيم انتقال ديمقراطى دون الوجوه التقليدية لمنظومة بوتفليقة. قد يدفع ذلك قيادة الجيش إلى الانفتاح على قوى وشخصيات شعبية لا تزال تحظى بالاحترام والتقدير لدى الجزائريين، لرسم خطة إصلاح وتحول ديمقراطى.
النص الأصلى