ــ 1 ــ
خلال أيام قليلة (وبالتحديد فى الثامن عشر من الشهر الجارى) تحتفل منظمة الأمم المتحدة باليوم العالمى للغة العربية الذى صار يوما معروفا ومشهورا ومعلوما لتجديد الاحتفاء والاحتفال باللغة العربية، ومناقشة قضاياها وإشكالاتها وهمومها والعمل على ترقية الوعى بها وإشاعة استخدامها بمعرفة حقيقية قراءة وكتابة وحديثا واستماعا.
ورغم تواتر الاحتفال باليوم العالمى للغة العربية منذ سبعينيات القرن الماضى، فإن الثقافة العربية المعاصرة لم تلتفت لهذا الحدث، ولم تُعِرْه اهتماما إلا فى السنوات العشر الأخيرة تقريبًا، الأخيرة، وكان من آثار هذا الاهتمام تدشين مؤسسة محمد بن راشد للغة العربية، والعناية بها وتبنى قضاياها، وقد ساهم هذا الالتفات الرائع فى تغيير الوعى بوضعية اللغة العربية ومشكلاتها، وفى الوقت ذاته إعادة النظر معرفيا وثقافيا فى التعرف عليها ودراستها.
ــ 2 ــ
بالمركز الثقافى الفرنسى بالقاهرة، وعلى مدى ما يقرب من ساعتين صباح الخميس الماضى، شرفت وسعدت بالحديث إلى الطلاب الفرنسيين والأجانب الذين يدرسون «العربية» فى المركز الثقافى العريق، وذلك فى محاضرة أعددتها بعنوان «اللغة العربية.. التاريخ والحاضر وآفاق المستقبل»، والحقيقة لقد فوجئتُ ودهشتُ من الحضور الكبير الذى ملأ المسرح بقاعة المحاضرات بالمركز.
طلاب وطالبات من فرنسا ودول أوروبية أخرى، ومن آسيا وأفريقيا، كل هؤلاء تجمعوا فى المسرح للاستماع إلى محاضرة عن اللغة العربية، فضلا على مدربى اللغة العربية ومدرسيها ببرامج تعليم العربية لغير الناطقين بها بالمركز الثقافى الفرنسى.
أسعدنى جدا هذا التفاعل الكبير مع الأفكار التى طرحتها حول بعض القضايا والموضوعات المتصلة باللغة العربية، تاريخها القديم وعلاقتها الدين والهوية القومية والوطنية وآفاق المعاصرة وإشكالات الفصحى والعامية.. إلخ.
أدار الحوار الفنان التشكيلى ومسئول البرامج والخطط والندوات الثقافية بالمركز الأستاذ هانى حنا، وهو صاحب الدعوة الكريمة التى تشرفت بتلبيتها سعيدا، وقد جرى الحديث من خلال محاور خمسة جرى صياغتها فى صورة أسئلة تتضمن أفكارًا تدور حول تاريخ وواقع اللغة العربية، وتقاطعاتها مع الدين والهوية، ومستجدات العصر وثورة المعلومات.
ــ 3 ــ
وقد استهللت المحاضرة بإلقاء الضوء على جوانب من تاريخ اللغة العربية ومراحل تطورها، وكذلك مناقشة تطور هذه المراحل بمفهوم الهوية العربية. أما الفكرة الثانية التى دار حولها الحديث فكانت عن العلاقة بين اللغة والدين؛ تلك العلاقة الوثيقة والمتلازمة، فما كان للغة العربية أن تشهد ما شهدته من انتشار وازدهار لولا دعوة الإسلام، فالقرآن نزل بالعربية، وحول القرآن دارت الحركة العلمية بأكملها التى سعت إلى تقنين القواعد اللغوية، وجمع اللغة وتدوين العلوم العربية الأصيلة، فضلا على دراسة مكامن الإعجاز فى النص القرآنى، ومن ثم صار الارتباط وثيقا بين اللغة وبين الدين.
فيما تناولت الفكرة الثالثة تطور مفهوم الهوية العربية من خلال الأدب أو بعبارة أخرى، تجليات العربية من خلال النصوص الأدبية وخاصة فى العصر الحديث، وقد قدمت الأفكار المتصلة بهذه المسألة من خلال نموذج ناصع هو تجربة أديب العربية الأهم والأشهر فى القرنين الأخيرين نجيب محفوظ الذى تحدث بوضوح عن ارتباط اللغة العربية بالهوية وبالوطنية، وبحب الأدب وقراءة النصوص، وقد أشار إلى ذلك فى مواضع عديدة من حواراته وأحاديثه.
وكان لا بد أن نتطرق إلى دور مجمع اللغة العربية بالقاهرة والمجامع اللغوية العربية عموما فى هذا الإطار.
ــ 4 ــ
من بين أبرز الأفكار التى ناقشناها فى المحاضرة فكرة «اللغة والهوية الوطنية»، فمصطلح اللغة الوطنية، طرحه طه حسين على سبيل المثال فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» وهو بصدد الحديث عن تعليم اللغة العربية، وقد استخدم مفهوم اللغة الوطنية، بما يقابلها بالمفاهيم السائدة فى الدول الأوروبية، حيث تعتمد فى مدارسها وثانوياتها وجامعاتها التعليم والتثقيف والتدريس بلغاتها الوطنية، حيث يتعلمون فيها لغتهم الوطنية، يتثقفون فيها بثقافتهم القومية؛ ولهذا يقول طه حسين بوضوح ودون أدنى لبس «إن اللغة العربية هى لغتنا الوطنية، فنحن نتعلمها ونعلمها، لأنها جزء مقوم لوطنيتنا ولشخصيتنا القومية؛ لأنها تنقل إلينا تراث آبائنا، وتتلقى عنا التراث الذى ستنقله إلى الأجيال المقبلة، ثم لأنها الأداة الطبيعية التى نصطنعها فى كل يوم، بل فى كل لحظة ليفهم بعضنا بعضًا».
وهذا ما جعله يتخذ موقفًا واضحًا لا لبس فيه أيضًا لاعتماد اللغة العربية مادة أساسية للتدريس فى كل المراحل التعليمية، ولا يرى أى مبرر لتدريس مختلف المواد أدبية كانت أم علمية باللغة الأجنبية، بل أكثر من هذا يواجه دعاة تعليم اللغات الأجنبية فى بداية نشأتهم، وهذا ما عبر عنه بالقول: «يجب ألا ندخل الاضطرابات والاختلال على الصبى أثناء تعلمه لغته الوطنية الصعبة، بتعليمه لغة أجنبية بعيدة عنها أشد البعد، مخالفة لها أشد الخلاف، قبل أن يتمكن من هذه اللغة الوطنية إلى حد ما».
ــ 5 ــ
إن أبرز ما فى هذا اللقاء من وجهة نظرى هذه الجدية الرصينة فى التعامل مع اللغة العربية، والاهتمام بها وبتعليمها والحرص على تقوية نوازع هذا التعلم لدى طلابها من غير الناطقين بها باستضافة الخبراء والمتخصصين والباحثين فى الشأن اللغوى والمهتمين باللغة العربية، من أجل إدارة حوار حى وثرى ومثمر بينهم وهؤلاء الطلاب الشباب.
وكم أسعدنى وأدهشنى أن يكون من بين هؤلاء الطلاب دارس إيطالى أنجز أطروحته للماجستير حول جهود سيبويه فى تقعيد النحو العربى من خلال دراسة نصه التأسيسى «الكتاب»، فضلا على انشغاله فى أطروحته للدكتوراه ببحث بعض المفاهيم فى القرآن الكريم، وتحليلها لغويا ودلاليا!
إن لغتنا العربية محل اهتمام ومحل تقدير من غير أبنائها، ومن غير الناطقين بها. وكم أتمنى وأحلم بأن تحظى ببعض هذا الاهتمام الأصيل وهذا التقدير الحقيقى من أبنائها، فهم أجدر بذلك وأحق لو كانوا يعلمون.
(وللحديث بقية)..