دبلوماسيون وباحثون عن آثار.. والحركة الوطنية - محمد عبدالمنعم الشاذلي - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 3:40 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دبلوماسيون وباحثون عن آثار.. والحركة الوطنية

نشر فى : السبت 11 مارس 2023 - 8:40 م | آخر تحديث : السبت 11 مارس 2023 - 8:40 م

بدعوة كريمة من مركز البحوث الأمريكى فى مصر ARCE، وهو مركز معنى بالأبحاث الأثرية والحضارية، حضرت يوم 15 فبراير محاضرة شيقة ألقتها الأثرية الأمريكية Cynthia Sheikholeslami المقيمة فى مصر منذ أربعين سنة، ومتزوجة من مصرى، كما هو واضح من اسمها. قد أجرت أبحاثا فى الأقصر ومعبد الكرنك كما أن لها مؤلفات منها كتاب جميل عن قصائد وأناشيد الحب عند قدماء المصريين.

حضر المحاضرة لفيف من الجمهور المميز منهم الأستاذ الدكتور حسن سليم أستاذ المصريات بجامعة عين شمس، والدكتور أحمد مكاوى وزوجته الأنيقة الدكتورة شروق، ومن الدبلوماسيين حضر سفير الولايات المتحدة وسفيرة اليونسكو والمستشار الثقافى الأمريكى والمستشار الثقافى الإسبانى ولفيف من المثقفين والمهتمين بعلم المصريات.

تناولت المحاضرة سيرة الدكتور Joseph Morton Howell الطبيب الأمريكى المولود فى عام 1863 الذى تخرج فى كلية سترلينج الطبية فى أوهايو سنة 1855، وكان صديقا مقربا من السياسى الديمقراطى Warren Harding الذى صار فى عام 1921 الرئيس التاسع والعشرين للولايات المتحدة. كافأ الرئيس الجديد صديقه الحميم بتعيينه قنصلا عاما للولايات المتحدة فى مصر. وبعد وصول هويل بأقل من سنة صدر إعلان 1922 الذى اعترفت فيه بريطانيا باستقلال مصر وأعلنت قيام المملكة المصرية، وأصبح رئيسا للمفوضية الأمريكية بدرجة وزير مفوض.
• • •

وصل هويل إلى مصر فى مرحلة دقيقة من تاريخها خلال الفترة التى أعلن فيها الاستقلال المنقوص، وتولى سعد باشا زغلول رئاسة وزارة وفدية هى الأولى التى يختارها الشعب، كثمرة من ثمار الجهاد والكفاح ضد الاستعمار البريطانى وثورة 1919. كانت حكومة الوفد والشعب المصرى يعملون لإثبات جدارتهم بالاستقلال وتأكيد امتلاكهم لناصية مصيرهم وفتح صفحة جديدة من الحرية وطى صفحة الاستعمار والتبعية. كان هويل متعاطفا مع الحركة الوطنية المصرية وأقام علاقات ودية مع قيادات حزب الوفد وامتدت علاقاته إلى الشعب وتواصل مع الموظفين وأفراد الطبقة الوسطى وكان يصطحب الوفود الأمريكية والزائرين لمقابلة أقطاب الحركة الوطنية والوزراء من حزب الوفد. كما كان هويل واحدا من أربعة دبلوماسيين أجانب تلقوا الدعوة لحضور الافتتاح الرسمى لمقبرة توت عنخ آمون، ولمواقفه الإيجابية الصديقة المتعاطفة مع القضية المصرية، ولمنصبه كسفير للولايات المتحدة واعترافا بدور بلاده فى المجال الأثرى فى مصر. فهى بلد الأثرى الكبير George Reisner الذى عمل فى مصر منذ مطلع القرن العشرين فى الأقصر وفى الجيزة ودراسته لمعبد هرم الملك خفرع، واكتشافه مقبرة الملكة حتب حرس زوجة الملك سنفرو وأم الملك خوفو. كما أن امتياز الحفر الذى حصل عليه اللورد كارنارفون كان ممنوحا للمليونير الأمريكى Theodore Davis الذى تنازل عنه لكارنارفون بعد مغادرته الأقصر لاعتلال صحته. وتجدر الإشارة إلى أن ديفيز بلغ افتنانه بالحضارة الفرعونية وبوادى الملوك حتى أنه أوصى بدفنه فى الوادى. وقد نقل جثمانه بعد وفاته فى الولايات المتحدة ليدفن فى الوادى، يضاف إلى ذلك الدور الأمريكى فى تسجيل آثار المقبرة وفضل بعثة متحف المتروبوليتان ومديرها Albert Lythgoe الذى أعار لكارتر العديد من العاملين بالبعثة، لعل أهمهم كان المصور Harry Burton الذى يرجع له الفضل فى التقاط أربعة آلاف صورة لمقتنيات المقبرة، وأعطى الاكتشاف شهرته العالمية. ولعل الفضل يرجع إلى بيرتون فى تعريف العالم بدور حسين عبدالرسول الذى كان عمره لم يتجاوز الثانية عشرة والذى كان أول من اكتشف السلالم المؤدية إلى مدخل المقبرة، ولم يذكره كارتر بكلمة فى مذكراته وأوراقه وما كان أحد ليذكره لولا صورة بيرتون له وهو يرتدى قلادة توت عنخ آمون الذهبية. ولازالت عائلة عبدالرسول تعرض الصورة فى برواز كبير على جدران فندق المرسم فى الأقصر، وهو المبنى الذى كان سابقا مقر البعثة الأثرية لجامعة شيكاغو باسمChicago House حتى عشرينيات القرن الماضى عندما اشترته عائلة عبدالرسول لتحوله إلى فندق جميل، ورغم أن هويل كان له تحفظ شديد على قرار اللورد كارنارفون بإعطاء الحق الحصرى لتغطية أخبار مقبرة توت عنخ آمون ونشر صورها لصحيفة The Times البريطانية، مما أثار غضب مراسلى الصحف الأمريكية لإعاقتهم عن متابعة أخبار الكشف المبكر الذى أثار اهتمام وخيال العالم كله. وبالطبع كان قرار اللورد كارنارفون فى هذا الصدد سببا لإثارة غضب الصحفيين والساسة المصريين الذين شعروا أنه افتئات على سيادة البلاد. ورغم ذلك فقد حاول هويل أن يلعب دورا فى تهدئة الأجواء الملتهبة بين كارتر والحكومة المصرية بسبب تصرفاته المتعنتة والمتعالية التى دفعته إلى إغلاق المقبرة وردت الحكومة المصرية بفرض حراسة من الشرطة بتعليمات من مرقص باشا حنا وزير الأشغال العامة، فقد حاول هويل تهدئة الأجواء بإبعاد كارتر عن مصر حتى تهدأ الأمور فقدم له دعوة لجولة فى الولايات المتحدة يلقى خلالها عددا من المحاضرات معززة بصور على الفانوس للصور المبهرة التى التقطها هارى بيرتون.

إلا أن الأجواء المواتية لمهمة هويل لم تستمر وانتهى شهر العسل له فى مصر أولا بالوفاة الفجائية لراعيه الرئيس هاردينج الذى عينه فى منصبه عقب إصابته بأزمة قلبية حادة فى أحد فنادق سان فرانسيسكو أثناء قيامه بجولة انتخابية فى عام 1923. إلا أن ما حول مهمة هويل إلى كابوس مزعج كان المندوب السامى البريطانى الجديد فى مصر اللورد George Lloyd الذى عين فى منصبه فى عام 1924 خلفا للمارشال ألنبى. ومن المفارقات أن ألنبى الذى عينته بريطانيا لاحتواء ثورة 1919 بهيبته الأسطورية وهو الذى احتل القدس وهزم القوات العثمانية فى عام 1917، وما عرف عنه من صرامة وحتى هيئته المهيبة بطوله الذى يناهز 190 سم إلا أن المارشال بحنكته وعقله البرجماتى أدرك أن ثورة الشعب المصرى مصرة على تحقيق الاستقلال ولا يمكن إيقافها، فأشار على حكومته بضرورة تقديم تنازلات كبيرة ومن ثم كان صدور إعلان فبراير 1922 باستقلال مصر.

وكأن بريطانيا قد ندمت على ما قدمته من تنازلات فأرسلت مندوبها السامى الجديد من غلاة دعاة الإمبريالية وينتمى للجناح اليمينى المتشدد لحزب المحافظين وناصب السفير الأمريكى العداء منذ وصوله ولعل أول احتكاك حدث عندما احتج هويل أثناء استقبال الملك فؤاد فى محطة السكة الحديد لدى عودته إلى القاهرة من مقره الصيفى فى الإسكندرية عندما خرج المندوب السامى البريطانى مع الملك وأسرته من باب بينما خرج باقى ممثلى الدول من باب آخر ورغم أن البروتوكول وضع أسبقية للدبلوماسيين إلا أنه لا يميز بينهم فى أبواب الخروج. ورأى جورج لويد قيام هويل ترتيب مقابلة الوفود والزائرين من الولايات المتحدة لأعضاء حزب الوفد والقوى الوطنية المصرية عملا معاديا لبريطانيا حتى أنه كتب فى تقرير إلى لندن بأن هويل يستقى معلوماته من الرعاع والمهرجين! واشتاط المندوب السامى غضبا عندما أعرب هويل عن مناصرته لقضية أصحاب مركبات النقل العام بسبب قانون وضعه الإنجليز بشروط لمواصفاتها وبرسوم جديدة عليها. ولم يتورع جورج لويد المفروض أنه جنتلمان لا يخوض فى سيرة النساء عن انتقاد زوجة هويل واصفا سلوكها بالسوقية الفاضحة وأنها لم تستطع التخلى عن سلوك بيئتها غير الأرستقراطية باتصالها بسيدات الطبقة الوسطى المصريات. وينتقد جورج أيضا مسلك هويل الذى رفض امتثال سائقه لإشارة شرطى بريطانى يمنعه من العبور واخترق إشارته. لعل جورج يتناسى الواقعة التى ذكرها الكتاب القيم الذى أصدرته مكتبة الإسكندرية عما سمى بمذبحة الإسكندرية عام 1882 عن المواطن البريطانى الذى اعترضه شرطى مصرى فدهسه بحصانه وقتله! مما يؤكد تعمد جورج اختلاق المواجهات مع هويل وما يحكيه فى أحد تقاريره بأنه رفض تعليمات الشرطى البريطانى المنوط بحراسة منزله الذى أشار إليه بالمرور من طريق آخر أثناء دخوله المنزل ودفعه إلى السور وأصابه بخدوش وهو ادعاء غير معقول أن يعترض الحارس على باب منزل السفير طريقه بدلا من أن يؤدى له التحية!

تذكر التقارير أن أرشيف وزارة الخارجية البريطانية يفضى بتقارير عن تصرفات السفير الأمريكى فى مصر وكأن المندوب السامى لا يجد ما يشغله سوى متابعة تصرفاته. أما أكثر الأمور شذوذا فكان إرسال المندوب السامى طلبا إلى الخارجية البريطانية بمخاطبة نظيرتها الأمريكية بنقل ممثلها فى القاهرة لأنه غير متعاطف مع السياسة البريطانية! وهو مطلب شاذ لا أجد له مثيلا فى تاريخ الدبلوماسية.
• • •

أخيرا وفى سنة 1926 قدم هويل استقالته إلى الرئيس الأمريكى وأقامت القوى الوطنية المصرية حفلا كبيرا لوداعه حضره مصطفى النحاس باشا وحافظ عفيفى باشا ولفيف من زعماء الحركة الوطنية، وغادر هويل مصر وتقاعد فى بيته فى أوهايو وظل يحمل مودة فى قلبه لمصر، وألّف أثناء تقاعده كتاب عن مصر بعنوان Egypt’s past present and future نشر سنة 1929 استعرض فيه رؤيته لمصر فى الماضى والحاضر والمستقبل كما يشير عنوان الكتاب، وظل فى تقاعده حتى توفى عام 1937.

ختاما، فأنا مدين بالشكر للأستاذة سينثيا شيخ الإسلام ولمركز البحوث الأمريكية فى مصر على تعريفنا بجوزيف مورتون هويل الذى حمل تعاطفا مع مصر فترة نضالها لتحقيق استقلالها التام.

عضو المجلس المصرى للشئون الخارجية

محمد عبدالمنعم الشاذلي عضو المجمع العلمي المصري
التعليقات