كانت نهاية الحرب العالمية الأولى بمثابة صفعة قوية على وجه العرب، وبعد دعم قوى لبريطانيا وفرنسا نالوا جزاء سنمار. نسيت بريطانيا تماما وعودها للشريف حسين بإقامة دولة عربية موحدة يكون ملكا عليها. نسيت ثورته على الدولة العثمانية التى فتحت جبهة جديدة فى الحرب، حاربت فيها بريطانيا بجنود العرب، نسيت بريطانيا تماما فضل الجيوش العربية التى مكنت المارشال اللنبى من دخول القدس قبل أيام من أعياد الميلاد عام 1917 والأثر المعنوى الهائل لهذا الحدث فى وقت كانت معنويات الإنجليز فى الحضيض. نسيت بريطانيا التضحيات التى قدمتها مصر لنصرة بريطانيا فى الحرب ومنها تقديم أكثر من مائة ألف مصرى فى كتائب الأشغال التى مدت الطرق والسكك الحديدية وحفرت الخنادق وبنت التحصينات لصد الهجمة التركية الألمانية عبر سيناء للاستيلاء على قناة السويس، ومصادرة الدواب من خيول وجمال وبغال وحمير والمحاصيل لصالح المجهود الحربى البريطانى، مما كان له آثار جسيمة اقتصادية واجتماعية على مصر. كما نسيت فرنسا فضل أكثر من 350 ألف جزائرى حاربوا فى صفوف الجيش الفرنسى أثناء الحرب.
بعد أن ظهرت خديعة بريطانيا وفرنسا بفضح اتفاقية سايكس بيكو وصدور وعد بلفور. فبدلا من إقامة الدولة العربية المستقلة اقتسمت بريطانيا وفرنسا الدول العربية تحت استعمار سمى تأدبا بالانتداب. كانت الغضبة متمثلة فى ثورة 1919 فى مصر، وهبة الجيش العربى فى سوريا بقيادة يوسف العظمة الذى سقط شهيدا على أرض ميسلون رافضا الاستسلام للجيش الفرنسى عام 1920، ثم كانت ثورة العراق ضد الإنجليز عام 1920 ثم ثورة سوريا الكبرى عام 1925.
قمعت كل هذه الانتفاضات وسقط آلاف الشهداء منهم عشرون ألفا فى العراق وعدة آلاف فى سوريا ولبنان، ومئات فى مصر. وأحكمت الدول الإمبريالية قبضتها على العرب الذين اكتشفوا بعد فوات الأوان أنهم ثاروا وقاتلوا ليس من أجل الاستقلال ولا الدولة العربية المستقلة الموحدة، ولكن من أجل استبدال استعمار باستعمار.
***
بعد أن راحت السكرة وجاءت الفكرة، أيقن المفكرون والمثقفون العرب أنه لا أمل للجنود العرب الذين لازالوا يحاربون بأسلوب تراثى على ظهور الخيل وبالسيف وقلة منهم يحملون بنادق قديمة تدعمهم مدافع خفيفة من عصور سابقة، وأن سيوفهم ورماحهم تكسرت على دروع الدبابات والبوارج التى ترميهم من البحر والطائرات التى تقصفهم من الجو.
لعل من فوائد الصفقات الأليمة المتتالية التى تلقاها العرب بعد الحرب أنها نبهتهم إلى أهمية تكوين جبهة موحدة من الشعوب التى تعانى من الظلم والاستغلال فى مواجهة الدول الاستعمارية المستغلة. ولعل ذلك كان مقدمة لفكر ساد بعد ذلك بأكثر من ثلاثين سنة: فكر جمال عبدالناصر ونهرو وشواين لاى ونكروما وتيتو وكاسترو، الذى سعى إلى تجميع قوة المستضعفين فى الأرض فى آسيا وإفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية فى جبهة واحدة قوية ضد الإمبريالية والاستغلال فى حركة عدم الانحياز.
فى ظل هذا المناخ السائد منذ قرابة مائة عام، اجتمع فى عام 1922 مائتين من الأدباء والمثقفين والشخصيات العامة فى القاهرة واتفقوا على تأسيس «الرابطة الشرقية» بهدف توثيق الروابط بين الدول العربية والإسلامية وحددت مسعاها: «بنشر المعارف والآداب والفنون الشرقية وتوثيق روابط التعارف بين مختلف أمم الشرق عبر الوسائل العلمية والاقتصادية وبالاعتماد على بث دعوتها بالقلم واللسان من خلال مجموعة سبل ومبادرات متنوعة يتقدمها ايفاد بعض رجالها إلى البلاد الشرقية للتعارف والتآلف وانتشار فروع لها فى شتى البلدان المعنية وعقد مؤتمرات دورية فى جهات متعددة لتبادل الأفكار».
وفى مقال لمحمد رشيد رضا فى مجلة المنار كتب يقول إن العالم منقسم إلى شرق وغرب وأن الغرب بات يسيطر على مقدرات الشرق ويستغل موارده وثرواته وأن الحرب الأخيرة (الحرب العالمية الأولى) أظهرت نوايا الغرب وخداعه. ولذلك وجب تعاون دول الشرق التى تملك حضارات وثقافات العالم لمواجهة التحدى واستعادة الأمجاد. إن مجرد إدراك مجموعة من الصفوة فى المجتمع أنه تم التغرير بهم وببلادهم وبشعوبهم هو صحوة وخطوة هامة للنجاح خاصة وأنه صاحب هذا الإدراك بحقيقة أن كل من واجه الغرب منفردا مهما كانت نبل مقاصده وإخلاصه غلب؛ من أول المهدى فى السودان، وعرابى فى مصر، وعبدالقادر الجزائرى فى الجزائر، وعمر المختار فى ليبيا، ويوسف العظمة فى سوريا، وعبدالكريم الخطابى فى المغرب.
فى 22 يوليو 1925 انتقلت الرابطة إلى مقرها الجديد فى احتفالية كبيرة، حضرها المشايخ والأعيان. وتم انتخاب الشيخ عبدالحميد البكرى ــ شيخ مشايخ الطرق الصوفية ــ رئيسا للرابطة، ومحمد رشيد رضا ــ وهو تلميذ لمحمد عبده والأفغانى ــ نائبا للرئيس، وضم المجلس العديد من أقطاب الثقافة والصحافة والأدب مثل محمد أمين واصف بك رفيق مصطفى كامل وهو من أوائل المهتمين بالتاريخ الفرعونى فى مصر، وألف كتاب «اتحاف أبناء العصر بتاريخ ملوك مصر» والشيخ أبو الوفا التفتزانى من علماء الأزهر، وأيضا الشيخ سرور الزنكلونى عضو هيئة كبار علماء الأزهر، وهو أيضا من تلاميذ محمد عبده وكان له نشاط بارز خلال ثورة 1919. ومن منافعه أنه تصدى لنشاط المبشر الأمريكى Samuel Marinus Zwemer الذى كان يعمل فى القاهرة واعترف فى كتاباته أنه لم يقصد تحويل مسلمى مصر إلى المسيحية لكنه يعمل على تشكيكهم فى دينهم لهدم الدين الإسلامى. وكانت تحذيرات الزنكلونى سببا فى طرده من مصر. ومحمد الغنيمى التفتزالى الذى ترجم كتاب عادات المصريين للإنجليزى إدوارد لاين، ومن غير المصريين الإيرانى ميرزا مهدى رفيع مشكى وهو تاجر يعمل فى مصر. ومن فلسطين أبو الحسن محمد على طاهر الصحفى صاحب جريدة الشورى وكان منذ بداية القرن يحذر من خطورة الاستيطان اليهودى فى فلسطين ويهاجم الاستعمار البريطانى والفرنسى مما عرضه للاعتقال أكثر من مرة.
ولم تكن السلطة والحكومة بعيدة عن الرابطة، فكان من ضمن أعضاء مجلسها أحمد شفيق باشا رئيس الديوان الخديوى ووكيل الجامعة المصرية التى صارت لاحقا جامعة فؤاد ثم جامعة القاهرة. وأحمد زكى باشا سكرتير عام الحكومة المصرية. كما مثلت الأسرة المالكة فى مراسم افتتاح المقر الدائم بالأمير يوسف كمال والأمير إسماعيل داوود. والجدير بالذكر أن من بين حضور الاحتفال كان هناك شاب صغير لم يتجاوز مرحلة الصبا اسمه صالح جودت والذى صار لاحقا من أميز شعراء مصر، فغنت له أم كلثوم رائعتها الثلاثية المقدسة وغنى له عبدالوهاب أنشودة الفن.
***
لعلنا نتساءل لماذا ذوت واندثرت هذه الرابطة التى انطلقت بقوة وزخم على أكتاف مجموعة من أنبه رجال العصر وأكثرهم تنويرا؟ ولماذا لم تحقق نتيجة ملموسة حتى إن أحدا لا يكاد يذكر وجودها اليوم. لعل السبب الأول أنها كانت مدفوعة من الملك فؤاد، فسنة تأسيس الرابطة كان سنة إعلان استقلال مصر عام 1922 ومع الحماس الشعبى الذى صاحب ذلك أراد الملك فؤاد أن يحقق خطوة تدعم ملكه ومد نفوذه خارج مصر إلى الشرق خاصة، وإنه كان له طموحات فى إعلان نفسه خليفة للمسلمين بعد سقوط الخلافة وإنهائها فى تركيا.
يضاف إلى ذلك، وهو الأهم فى تقديرى، أن الجمعية أجهضت هدفها بوحدة الشرق بالتركيز على البعد الإسلامى وإغفال الديانات الأخرى السائدة فى الشرق؛ المسيحيون واليهود فى مصر والشام والعراق واليمن والمغرب وفلسطين، فضلا عن الديانات غير السماوية السائدة فى الشرق مثل الهندوسية والبوذية والكونفوشية فى الهند والصين. وتشير عدد من الوثائق التاريخية للرابطة إلى أن الرابطة كانت محل قلق ورقابة من السلطات البريطانية التى لاشك عملت على عرقلة مسيرتها، كما أن السراى والملك وإن عملوا على محاولة استغلال الرابطة فى دعم النفوذ، إلا أنه حتما لم يشعر براحة من وجود شخصيات كانت قريبة من مصطفى كامل ومحمد عبده والأفغانى بين صفوفها، كما أغفلت الرابطة الاتجاه للشعب، فلم تضم فى صفوفها ممثلى عن التيار الشعبى المعاصر وهو حزب الوفد. كما أن الزمن قدم بدائل أكثر جاذبية للجماهير مثل الاشتراكية التى أعطت لها الثورة الروسية زخما شديدا، ثم ميلاد الفكر القومى ممثلا فى ساطع الحصرى وحزب البعث ثم الناصرية.
كانت الرابطة صفحة من صفحات الوعى لعل أهم عناصرها الإيمان بالتضامن من الدول المستهدفة فى الشرق كانت أو فى الغرب وقد تطورت الفكرة بعد مضى أكثر من ثلاثين سنة بفكرة القومية العربية التى لا تزال تجاهد لتحقيق توحد العرب وبفكرة عدم الانحياز التى حاولت تجميع ضحايا الإمبريالية من الصين شرقا حتى كوبا غربا.