الناى.. أقدم آلة موسيقية أمام تحديات الاختفاء - صحافة عربية - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:55 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الناى.. أقدم آلة موسيقية أمام تحديات الاختفاء

نشر فى : الجمعة 11 يونيو 2021 - 8:30 م | آخر تحديث : الجمعة 11 يونيو 2021 - 8:30 م
نشر موقع درج مقالا للكاتب نبيل مرة تناول فيه كيف أن الناى كأقدم آلة موسيقية كان نتاجا لتفاعل الإنسان مع النبات، وكيف يعكس شكل العلاقة البدائى بين الإنسان والموسيقى، إلا أن هذه الآلة مهددة بالاختفاء، فهو لم يطرأ عليه أى تغييرات أو تجديدات تجعله قادرا على الصمود أمام ما يواجهه من تحديات... نعرض منه ما يلى.
النايُ هو فى الأصل قصبةٌ نباتية مُجوّفة، بدايتها ونهايتها مفتوحتان على الهواء. مبتدأٌ ينطلق هواؤه من الرئتين مضغوطا عبر الشفتين ليَخْرُج خبرا، عن أحوال الذات ومشاعرها.
قُصةُ آلة النايِ كما معظم الآلات الموسيقية عموما فى انطلاقها من الطبيعة. وتحديدا من عنصرين مهمين هما الهواء والنبات. فسحر الصوت الصادر عن احتكاك الريح بالأشجار ونبات القصب هو ما حفز الإنسان البدائى على محاولة تقليده عبر ضمِّ الشفتين والنفخ ليَخْرُج صفيرا. والصفير ابتُكِر قديما كلُغةٍ فى التعبير الفنى ومُحاكاةً للكلام والتواصل بين البشر.
كل أغانى الشعوب وألحانها هى الوليد الطبيعى الناتج عن هذه العلاقة الحميمة بين الإنسان والنبات. لذا فالموسيقى تَدينُ بالكثير للطبيعة الأم. خشب الأشجار ونبات القصب شكَّلا إلى يومنا هذا، مسارا حيويا لتاريخ تطور الآلات الموسيقية على مدى التاريخ. وإذا استثنينا الآلات النحاسية، كنتيجة للثورة الصناعية، فسنلاحظ أن مُعظم الآلات الموسيقية مصنوعة من الخشب، وإنْ دخل على بعضها شيء من المعدن.
معظم الشعوب القديمة فى مختلف بقاع الأرض ابتكرت نايها الخاص. بعض هذه النايات انقرض من الوجود لأسباب موسيقية وأنثروبولوجية، والبعض الآخر عاش طويلا إلى يومنا هذا، ثابت فى الوجود لا يتغير، فتخطاه الزمن ليُمْسى آلة فولكلورية متْحفيّة. أما القليل منها فخضع لقُرون من الزمن إلى تحولات وتبدلات فى الشكل والحجم والمضمون ما أدى إلى تطور كبير فى قدراته التصويتية وإمكاناته التعبيرية.
ساهمت فى هذه التحولات والتبدلات مجموعة من العوامل أهمها: طفرة الثورة الصناعية والعلمية فى أوروبا، وأيضا تطور أشكال التأليف الموسيقى، ما أملى حاجة مُلِحّة عند المؤلفين الموسيقيين لابتكار أصوات موسيقية جديدة تُفضى بهم إلى لغة فنية حديثة ومعاصرة للزمن الذى عاشوا فيه. وهى ما أصبحت عليه فعليا آلات مثل الفلوت والكلارينت والأوبوا والباصون التى تُشكّل فى الأوركسترا السيمفونية مجموعة الآت الهوائية/ الخشبية.
أما نايُ القصب، وهو من أقدم الآلات الموسيقية التقليدية على الإطلاق، فوُجدت عند الكثير من الأعراق والشعوب، وخصوصا عند شعوب البحر الأبيض المتوسط وآسيا الوسطى والأناضول. فما زال إلى يومنا هذا يشهد التراث الموسيقى لهذه الشعوب على قصة العلاقة فى شكلها الأولى والبدائيّ، والتى نشأت بين الإنسان فى بداية تشكل وعيه الفنى وبين نبات القصب الذى يحلو له النمو فى تربة ملاصقة لمصبّات الأنهر فى البحر حيث تختلط حلاوة المياه بملوحتها.
•••
إلّا أنّ بدائية ناى القصب والممتدة منذ القِدم، وصولا إلى حاضرنا الحديث، من حيث تشكّل مواده الخام وطرائق صناعته أثّرت وتؤثر فى قدراته التقنية والتصويتية معا، بحيث أنها تُثير إشكاليات عدة فى مجال تقنيات العزف عليه، وفى إمكان التأليف المعاصر له. فعلى رغم قدرة الناى على الصمود كآلة تقليدية لها شخصيتها الموسيقية الفريدة فى التخت الشرقى، إلا أنّ استعصاء الناى على التطور والتحول عبر التاريخ وَضَعه فى الحاضر وسيضعه أكثر فى المستقبل أمام تحديات الاختفاء كآلة أساسية من آلات الموسيقى التقليدية، حاله كحال بعض اللغات الميْتة، ليُصنّف لاحقا ضمن لائحة الآلات الفولكلورية النادرة التى يُحتفى بها فى المناسبات التقليدية أو فى أفضل الحالات سينعزل الناى وحيدا ليتم التعامل معه كآلة ثانوية تُستخدم لأغراض الإيحاء الاكزوتيكى أو التأثير اللونى الحزين وبكائيّ النبرة.
آلاتٌ تقليدية أخرى كالعود والقانون خضعت بدءا من النصف الثانى للقرن الماضى لتغيّرات نسبية فى بنيتها من حيث نوع الخشب المستعمل لصُنع صندوق التصويت وقياساته، كما من حيث نوعية الأوتار المستعملة فى العزف وعددها، ما أضاف للآلة قدرة أكبر على الرنين واتساع مساحتها الصوتية، وأدّى إلى تحقق قفزات مهمة فى مجالى العزف والتأليف لهاتين الآلتين. هذه التغيرات والقفزات حصلت بشكل سريع وحاسم فى بلدان آسيا الوسطى مثل تركيا وأرمينيا وآذربيجان، أما فى بلدان الشرق العربى فكان سريان هذه التعديلات بطيئا وأحيانا غير مُستساغ.
أسباب البطء فى مسيرة تطوير هذه الآلات لا تعود إلى ما يشوب عمليات الإنتاج الموسيقية فى العالم العربى من عثرات وكبوات وحسب، بدءا من تحديث صناعة الآلات الموسيقية التقليدية مرورا بعملية تنشئة العازف الموسيقى انتهاء باتجاهات التأليف والتلحين. بل وتذهب الأسباب فى هذا الشأن إلى جانب اجتماعي/ ثقافى لا يغيب البعد السياسى عنه. فالمقاربة الخاطئة فى موضوع شائك ومعقّد كالانتماء والهوية فى الثقافة، والخوف الدائم من فكرة الاختلاط والذوبان فى الثقافات الاُخرى، أدّيا فى نهاية الأمر إلى نشوء نزعة مُتقوْقِعة غير صحية، تأبى الانفتاح على تجارب الموسيقى الغربية كونها تُعبّر عن ثقافة المُستعمِر.
هذه النزعة روّجت لأفكارٍ مُصطنعة مثل «الأصالة» فى الثراث الموسيقى وأفْتت بعدم جواز التفاعل ولو تماسا بسيطا بين «أصالة» التراث الموسيقى من جهة، وبين التجارب الغنية للموسيقى الغربية والنزعات التجديدية الدائمة فيها.
•••
أمّا الناى فقد ظل على حاله منذ نشأته الأولى إلى يومنا هذا من دون أن يطرأ على شكله أو أحوال صناعته أى تغيير حقيقى. وعلى رغم أن بعض صناع النايّ الذين هم عازفو ناى أيضا، قد أجروا عليه بعض التحسينات إلا أنها كانت جانبية الموْضع بحيث لا تمس جوهر المشكلة. ومشكلة الناى تتلخص فى الآتى من الأسباب:
أولا: إن ثقوب ناى القصب ومسافاته مُعَدّة لتعزف بسهولة المقامات الأساسية فى الموسيقى العربية، أمّا تفرعات بعض هذه المقامات وغيرها من سلالم الموسيقات العالمية فدونها صعوبات وتعقيدات تقنية جمة، خصوصا السلم الموسيقى المُلَوَّن أو الكروماتيكى.
ثانيا: ضيق المساحة الصوتية للناى يُقلِّص من قدرته على الحركة والمناورة السريعة فى التنقل بين المقامات والسلالم الموسيقية على أنواعها. لذا يستعين العازف فى أكثر الأحيان بسبع قصبات تكون دائما إلى جانبه للاستبدال، إذا اقتضت الحاجة. هذا الأمر يدفع بالمؤلف إلى الإحجام عن إسناد أدوار أساسية وقد تكون صعبة لآلة الناى تقنيا، إذْ تتطلب سرعة فى التلوين المقامى والتعبير الدرامى.
ثالثا: على رغم أن للنايّ صوتا شجيا، إلا أنه يتسم بالضعف من حيث قوته الترددية. لذا فوجود عازف واحد فى فرقة موسيقية متوسطة الحجم هو غير كاف على الإطلاق لإبراز صوته. وفى الوقت نفسه، أنْ يلعب عازفان فى أوركسترا على آلتى ناى جنبا إلى جنب سيشكل مشكلة جديدة ناتجة عن اختلاف فى الدوزان بينهما، تبعا لكون كل قصبة ناى لها دوزانها المختلف عن الاُخرى، كما أن لكل عازف ناى طريقة خاصة لضغط الهواء بين شفتيه.

رابعا: ندرة فى وجود كتب منهجية تعليمية تتضمن تمرينات عزفية متطورة وتؤسس لمدرسة عزفية رائدة ولطريقة فى النفخ الصحيح، ما يؤهِّل مجموعة محددة من عازفى الناى لامتلاك قدرة العزف معا، بشكل مُتَّسِق ودقيق تُراعى فيه صحة الدوزان.
خامسا: على رغم أن تعلُّم العزف على الناى منتشر عبر الإنترنت وتحديدا فى منصة «يوتيوب»، وهو ما قد يُعطى انطباعا بأن هناك كُثرا يعزفون عليه، ولكن الواقع يؤكد أن هناك قِلة من العازفين مُتمكِّنة أكاديميا فى العزف والأداء.
سادسا: الطرائق البدائية المستخدمة فى صناعة الناى التى لا تسمح بإنتاج نايات تتمتع بدوزان ثابت. عدا إحجام صُنّاع النايّ، ومنهم عازفون مهرة، عن وضع حلول عملية مبتكرة للدفع بهذه الآلة من حدودها البدائية، إلى مجالات أرحب وأقدر على الاستجابة لمتطلبات التأليف المعاصرة. بالطبع هناك صُنّاع قد أضافوا مفتاحا معدنيا وحيدا لتحسين نوعية الصوت إلى الأصوات الحادة للناى، فيما عمد آخرون كانوا إلى استخدام البلاستيك الصلب كمادة مطواعة ومتوافرة كبديل عن نبات القصب الذى بدأ يشُحُّ فى منابته الأصلية، لأسباب التمدد العمرانى ونتائجه المُضرّة بالبيئة الطبيعية، إلا أن المشكلات الأساسية فى قدرات الناى لم تُحل عبر هذه التحسينات الطفيفة.
قد يكون من المفيد بمكان لصُناع الناى بالتعاون مع عازفيه المهَرة، التأمل فى المخاضات الطويلة التى شهدتها آلة «الفلوت» الغربية، والتحولات التى خضعت لها، وما زالت جارية إلى يومنا هذا، لتكون على ما هى عليه من جمال وقدرة تعبيرية فائقتين. فمن خلال دراسة تطور هذه الآلة (الفلوت الترافرسييَر) وغيرها من الآلات الهوائية الغربية، لربما يأتى بشيء مفيد للاستلهام والاستفادة فى سبيل تطوير صناعة الناى، وابتكار الحلول العملية لمشكلاته المُزمنة، بهدف انتشاله من عزلته البدائية والمتْحَفيّة، وإنقاذه من نمطية وحيدة، كئيبة وبُكائية، تسيطر على أسلوب العازفين عليه.
الناى هذه الآلة الجميلة الغنّاء تختنق فى بدائيتها. وفى اعتقادى أن الهواء هو كل ما يلزمها لتخلع ثوب الحزن ونبرة الأنين عنها إلى الأبد. الهواء المُرتجى إنما هو هواء التطور والتحول الذى به يُكْتَنَهُ سرُّ الوجود.

النص الأصلى

التعليقات