عقب اندلاع الأزمة الخليجية ومقاطعة قطر من جانب السعودية والإمارات والبحرين ومصر، بدا واضحا أن محددات موقف واشنطن الحقیقى تتلخص فى نقطتین أساسیتین، الأولى هى: ألا يتم اتخاذ أى خطوات عسكرية من أطراف الأزمة، والثانية هى: ألا تؤثر أى من إجراءات الحصار وغلق المجال الجوى أمام قطر على حرية حركة الطائرات العسكرية الأمريكیة المنطلقة من قاعدة العيديد القطرية سواء فى عملياتها المتجهة نحو سوريا أو العراق أو أفغانستان، وبدا واضحا أن الرسالة الأمريكیة وصلت بوضوح لكل أطراف الأزمة. وبعد أيام اندلاع الأزمة، أشار الرئيس ترامب بأصابع اتهام غير مباشرة لقطر، وتخيل البعض أن البيت الأبيض اختار جانبا فى الصراع. إلا أنه وبعد مرور شهرين على بدء الأزمة وقف الرئيس ترامب إلى جوار أمير قطر فى البيت الأبيض يلقى بالثناء على علاقات واشنطن بالدوحة، ولم ينس ترامب أن يؤكد على مدى صداقته بقطر وحكامها. وأشار ترامب إلى أن ما ساهمت به قطر بلغ 8 مليارات دولار فى مشروعات تحسين وتوسعة القاعدة العسكرية الأكبر لواشنطن فى الشرق الأوسط. وقال ترامب بطريقة رجل أعمال نيويوركى «لقد كانت استثمارات تصل إلى 8 مليارات دولار ونحمد الله أنه كان فى الغالب من أموالكم وليس من أموالنا. ونحن نقدر التعاون العسكرى مع قطر». ثم أضاف ترامب أن «قاعدة العيديد فى قطر مميزة ومن أهم القواعد العسكرية، وأن قطر أنشأت واحدة من أعظم القواعد العسكرية فى العالم وطورتها». من ناحية أخرى دفعت الأزمة بقطر إلى أن تضاعف نفوذها فى واشنطن واستطاعت الاتفاق على عقد جلسات لحوار استراتيجى بين الدولتين. عقدت الجولة الأولى فى واشنطن فى يناير 2018، والثانية بالدوحة فى يناير 2019 بمشاركة وزيرى الدفاع والخارجية من الدولتين.
***
لا يجب أن يفهم مما سبق أن إدارة ترامب تخلت عن الأطراف الأخرى فى الأزمة، بل على العكس تجمع واشنطن وترامب علاقات أكثر من ممتازة مع الرياض وأبو ظبى والمنامة والقاهرة. ففى ما يتعلق بالرياض يقف ترامب حليفا قوميا لولى عهد السعودية بعد اتهامات نالته من الكونجرس والاستخبارات المركزية الأمريكية بالمسئولية عن مقتل الصحفى جمال خاشقجى فى قنصلية بلاده بإسطنبول. ويدعى ترامب أن الرياض ستستثمر ما يقرب من نصف تريليون دولار فى البنية التحية الأمريكية وفى شراء المزيد من الأسلحة المصنعة فى الولايات المتحدة. ولا يختلف الوضع كثيرا فى علاقات ترامب بولى العهد فى الإمارات الشيخ محمد بن زايد. أما البحرين فقد استضافت ورشة العمل الاقتصادية الخاصة بصفقة القرن الشهر الماضى. وفيما يخص مصر فمن الواضح أن هناك علاقات قوية تجمع الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى بإدارة ترامب. وتشير تقارير عدة إلى رغبة وبحث إدارة ترامب تصنيف الإخوان المسلمين كجماعة إرهابية بناء على طلب مصرى. وتشيد واشنطن بالرئيس المصرى وبدور مصر المتوقع فى أى ترتيبات مستقبلية لصفقة القرن. كما يتأثر موقف البيت الأبيض كثيرا تجاه الصراع فى ليبيا بالموقف المصرى وهو ما ظهر جليا فى مهاتفة الرئيس ترامب للجنرال الليبى خليفة حفتر، وعرقلة واشنطن إصدار بيانات فى مجلس الأمن الدولى ضد الهجمات التى تقوم بها قوات حفتر.
***
عقب اندلاع الأزمة سارعت دولها خاصة السعودية وقطر والإمارات لاقتناء أحدث ما تنتجه المصانع العسكرية الأمريكية على غرار نظام الدفاع الصاروخى المتطورــ ثاد ــ وطائرات إف 16 وإف 15 وبطاريات صواريخ باتريوت للدفاع الجوى، ودبابات ابرامز وصواريخ قصيرة المدى وقنابل ذكية، إضافة لبرامج تأهيل وتدريب لآلاف من ضباط وجنود هذه الدول فى الولايات المتحدة.
يدرك الرئيس ترامب جيدا أن واشنطن العاصمة هى الأهم لكل الدول الخلیجیة، وظھر ذلك بوضوح فى تنافس تلك الدول للتقرب من الإدارة الأمريكية بعدة طرق أهمها شراء أسلحة بمليارات الدولارات لا حاجة حقيقية لها، واستثمار مليارات أخرى فى البنى التحتية الأمريكية! واستثمارات أخرى فى سوق السندات الحكومية الأمريكية وغيرها. من ناحية أخرى لا تكترث واشنطن بحل الأزمة الخليجية حتى مع تصاعد التوتر فى الخليج على خلفية التوتر الإيرانى الأمريكى. وتستطيع واشنطن إذا رغبت أن تجمع الفرقاء الخليجيين العرب معا وتنهى هذه الأزمة التى تخطت العامين ولا يوجد فائز من ورائها إلا شركات اللوبى والعلاقات العامة وشركات التسليح الأمريكية.
***
لا يوجد حاليا أى بوادر لحل الأزمة الخليجية، وطالما أن الجميع يعمل على إرضاء ترامب وواشنطن، فلا يوجد مبرر أمريكى للدفع بضرورة انتهاء الأزمة. لكن بالطبع دوام الحال من المحال، إذ يتملك المرشحون الديمقراطيون بلا استثناء موقفا مناقضا لمحمد بن سلمان وسياساته المختلفة. وسيمثل وصول ديمقراطى أو ديمقراطية إلى البيت الأبيض فى انتخابات العام المقبل خبرا سيئا للرياض، وقد يكون بداية تغير كبير لمواقف واشنطن تجاه دول الخليج العربية.
كاتب صحفى يكتب من واشنطن