هل سيعود العصر الذهبيّ مرّة أخرى؟ - العالم يفكر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:33 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هل سيعود العصر الذهبيّ مرّة أخرى؟

نشر فى : الأربعاء 11 سبتمبر 2019 - 8:00 م | آخر تحديث : الأربعاء 11 سبتمبر 2019 - 8:00 م

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب «هاشم صالح».. نعرض منه ما يلى:

هل يشعر العرب بالعطش والجوع إلى الفلسفة؟ إذا لم يكُن الأمر كذلك فهذه مصيبة أو حتّى كارثة. فبعد هذا الانحطاط والتدمير كلّه لم يبقَ لنا من عزاء إلّا الفلسفة. من المعلوم أنّها حُذفت من تاريخنا ولُعنت بعد موت آخر ممثِّل كبير لها فى العام 1198: عنيت ابن رشد. كانوا يقولون: مَن تمنطَق فقد تزندَق، أو كان يتفلسف لعنه الله، إلى آخر هذه الكليشيهات الموروثة عن فقهاء عصر الانحطاط والظلام. ولكنّ عصر النهضة فى القرن التاسع عشر أعاد لها الاعتبار. ومع ذلك تبقى الفلسفة مجهولة من قبل جماهير المتعلّمين إن لم نقل المثقّفين.
نقصد تاريخ الفلسفة منذ بداياتها الأولى أيّام سقراط وأفلاطون وأرسطو وحتّى اليوم، مرورا بالقمم الكبرى من أمثال ديكارت وسبينوزا وكانط وهيغل ونيتشه وماركس وهيدغر وحتّى فوكو وهابرماس فى وقتنا الحاضر. أعتقد أنّ أفضل طريقة لمُواجَهة المَوجة الأصوليّة الداعشيّة الهاجِمة علينا حاليّا تتمثّل فى تعليم الفلسفة وفرْضها على جميع بَرامج التعليم العربيّة. لحُسن الحظّ، فإنّ المَملكة العربيّة السعوديّة قرَّرتها كمادّة مهمّة فى برامج التعليم الثانوى، بدءا من العام 2019. وهذا حدثٌ تاريخى بالمعنى الحرفى للكلمة لأنّها كانت ممنوعة سابقا بحجّة أنّها تشكِّل خطرا على الدّين. ينبغى العِلم بأنّ الفلسفة ليست مُعادية للدّين فى المطلق وإنّما للأصوليّة الدينيّة. وهُما شيئان مُختلفان. فهناك فلاسفة متديّنون كِبار من أمثال غابرييل مارسيل وبول ريكور وآخرين. ولكنْ عموما، فللدّين مَجاله وللفلسفة مَجالها ولا ينبغى الخلط بينهما. إنّهما متكاملان وليسا مُتعارضَين إذا ما فهمنا وظيفة كلّ منهما بشكل جيّد. وهذا ما نبَّه إليه كبير فلاسفة الأنوار كانط عندما قال: «لقد أوقفتُ العقل عند حدّه لكى أفسح المجال للإيمان». فالعقل مهمّته استكشاف القوانين الماديّة للطبيعة والكون. ولكنْ بعد أن يفرغ من مهمّته هذه، وبعد أن يصول ويجول فى الاتّجاهات كافّة، وبعد أن يستنفد كلّ طاقاته وإمكانيّاته، لا يعود يستطيع أن يتقدَّم خطوة واحدة إلى الأمام. عندئذ تبتدئ وظيفة الدّين الذى يقول لنا ماذا سيحصل بعد الموت؟ وإلى أين سنذهب؟ وماذا سيحصل فى الآخرة؟ ويجيب عن بقيّة أسئلتنا الماورائيّة. ونحن نقول: لأنّ المُسلمين فى عصر الانحطاط وبعد أفول العصر الذهبى الأوّل لم يفهموا ذلك، شَتموا الفلسفة وحرَّموا التعاطى معها واعتبروها مؤدّية إلى الكفر. والواقع أنّها ليست تهديدا للدّين إلّا فى صيغته الانغلاقيّة المُتزمّتة فقط. هذا شيء مؤكّد. ولذلك ينبغى إدخالها وبكثافة إلى بَرامج التعليم العربيّة لمُكافَحة الآثار الضارّة للتربية الأصوليّة الظلاميّة المُهيمِنة علينا تاريخيّا: أى منذ انتصار الحنابلة على المعتزلة، ثمّ تكفير الغزالى للفلسفة والفلاسفة فى كِتابه الشهير «تهافُت الفلاسفة». وقد ردّ عليه ابن رشد بعد سبعين سنة بكِتاب لا يقلّ شهرة إن لم يَزد «تهافُت التهافُت»، أى تهافُت أعداء الفلسفة. ولكنّ ابن رشد، وعلى الرّغم من ردّه القوى، فشل فى عكس التيّار الانحدارى أو الانحطاطى الجارِف، لأنّ العالَم الإسلامى كان قد غاص رويدا رويدا فى غيبوبةٍ فكريّة لم يستيقظ منها بشكلٍ من الأشكال حتّى الآن. لا ريب فى أنّ العصر اللّيبرالى العربى أو عصر النهضة الممتدّ منذ بدايات القرن التاسع عشر وحتّى العام 1950 كان قد قدَّم إنجازات كبرى لا يُستهان بها فى مجال الانفتاح على أوروبا والحضارة الحديثة والخروج من مُستنقع الجمود والتكرار والاجترار. وهى تشكّل العصر الذهبى الثانى للعرب. يكفى أن نذكر هنا أسماء شخصيّات نهضويّة فذّة من أمثال: رفاعة رافع الطهطاوى، وجمال الدّين الأفغانى، ومحمّد عبده، وبطرس البستانى، ويعقوب صرّوف، وجرجى زيدان، وعبّاس محمود العقّاد، وشبلى شميّل، وطه حسين، وفرح أنطون، وجبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، ومحمّد حسنين هيكل، وعشرات غيرهم. مَن يستطيع أن يقدِّر حجم التجديد أو الدمّ الجديد الذى بثّه جبران ونعيمة وعبدالمسيح حدّاد ورفاقهم فى أوصال ثقافتنا العربيّة الجامدة عندما أسَّسوا الرابطة القلميّة فى نيويورك فى العام 1920؟ لم يجدِّدوا الأدب العربى فقط، وإنّما جدَّدوا أيضا الفكر العربى، بل وحتّى اللّغة العربيّة ذاتها. انظروا كِتاب «الغربال» لميخائيل نعيمة. لم يبله الزمن حتّى اللّحظة. وهذا من فضائل المهجر علينا، لأنّه فى المهجر تكمن الحريّة.
***
لكنّ هؤلاء النهضويّين الأفذاذ على أهميّتهم لم يتجرّأوا على الخروج من السياج المُغلق والمتحجّر للاعتقاد الأصولى الراسخ منذ مئات السنين، بل وحتّى طه حسين لم يتجرّأ على ذلك أو قلْ لم يعرف كيف يُنجز هذه المهمّة الأخطر بالنسبة إلى الفكر العربى. ومعلوم أنّه انخرط بعد فترته التنويريّة التى كلّفته غاليا فى كتابة سلسلة الإسلاميّات بغية نَيل رضا الشارع الأصولى. نقصد بفترته التنويريّة تلك، الفترة التى شهدت ظهور كُتبه الكبرى مثل «مستقبل الثقافة فى مصر»، أو «فى الشعر الجاهلى»، أو سواهما من الروائع الأدبيّة والفكريّة، بل ولم يتجرّأ عليها مَن أتوا بعده من أمثال الجابرى والعروى وسواهما. وحده محمّد أركون عرف كيف ينفِّذ هذا البَرنامج النقدى العميق بفضل ثقافته الواسعة عربيّا وأجنبيّا، إسلاميّا ومسيحيّا. ثمّ بفضل سيطرته التامّة على المنهج والمصطلح. وهكذا ابتدأ العصر الذهبى الثالث للعرب. وهو شيء لم يتوافر لدى أيّ شخصيّة فكريّة على مستوى العالَم العربى، بل ولا حتّى الإسلامى ككلّ. وهناك الآن شخص ثالث يقدِّم أبحاثا تجديديّة عن تراث الإسلام هو عبدالنور بيدار. كلّهم خرجوا من باريس عاصمة الأنوار فى القرن الثامن عشر بالنسبة إلى أوروبا كلّها فى ذلك الزمان. والآن أصبحت عاصمة الأنوار بالنسبة إلى العالم العربى والإسلامى. فكما أنّها نجحت فى تنوير أوروبا سابقا فقد تنجح فى تنوير العالَم العربى لاحقا.

ثلاث ثورات فكريّة

لكن ما الذى نقصده بالخروج من السياجات المُغلقة للاعتقاد اللاهوتى؟ نقصد ما فعله فلاسفة الأنوار فى أوروبا بدءا من سبينوزا فى النصف الثانى من القرن السابع عشر وحتّى كانط فى النصف الثانى من القرن الثامن عشر، مرورا بجان جاك روسّو وفولتير «أكبر محرِّر للروح البشريّة» بحسب نيتشه. ما فعله هؤلاء المفكّرون الكِبار بالنسبة إلى الاعتقاد المسيحى لم يتجرّأ على فعله أيّ مثقّف مُسلم أو عربى بالنسبة إلى النواة الصلبة للاعتقاد اللّاهوتى الإسلامى. كلّهم كانوا يرتعشون خوفا ما أن يصلوا إليه. كلّهم كانوا يتراجعون أو ينكصون على أعقابهم صاغرين ما إن يقتربوا منه. وحده أركون تجرّأ واقتحم بكلّ اقتدار. من هنا أهميّة هذا المفكّر العملاق الذى قسَّم تاريخ الفكر الإسلامى إلى قسمَين: ما قبله وما بعده. لكن ماذا نعنى بالسياج المُغلق؟ نعنى ذلك السور الاعتقادى المُحاط بالأسلاك الشائكة والذى لا يعود مَن يدخله قادرا على الخروج منه، لأنّه يؤمِّن له طمأنينة مُطلقة. إنّ المتديّن الأصولى بهذا المعنى، هو شخص يكفِّر جميع الأديان والمَذاهب الأخرى ولا يستطيع إلّا أن يكفِّرها لأنّه مُنصهر كليّا داخل جدران دينه وطائفته. إنّه محبوس بالمعنى الحرفيّ للكلمة داخل السياج المُغلق على ذاته من الجهات كلّها. ولهذا السبب يجد الأصوليّون أنفسهم سجناء مذاهبهم وطوائفهم ولا يستطيعون منها فكاكا. وعن ذلك تنتج الظاهرة الداعشيّة والذبح على الهويّة.
***
إنّ العصر الذهبى الثالث للعرب مدعوّ لتحقيق أكبر ثورة فكريّة أو طفرة معرفيّة عظمى فى تاريخنا. إنّه مدعوّ إلى تحقيق ما عجز عنه العصران الذهبيّان الأوّل والثانى.
وهذه الثورة الفكريّة سوف تحصل على مَدار العشرين أو الثلاثين سنة القادمة: أى على أُفق 2030 أو حتّى 2050 بغية إحداث تغييرٍ جذريّ فى صميم الفكر العربى. عندئذ سوف تتهاوى يقينيّات لاهوتيّة جبّارة راسخة. عندئذ سوف ترتعد الفرائص! وهنيئا لمَن يعِش حتَى يشهد ذلك اليوم الموعود؛ ذلك أنّ التغيير الفكريّ بطيء وصعب وطويل الأمد. التغيير المادّى أسهل بكثير. ولذلك قال بعضهم: إنّ زحْزَحة الجبال أسهل من تغيير العقليّات. لا تتوقّعوا أن تنتهى العقليّات الطائفيّة المتحجّرة غدا أو بعد غد. لا تتوقّعوا أن تزول بضربة عصا سحريّة. هذه عمليّة شاقّة جدّا. ولن تتحقّق قبل انتصار التنوير العربى على الظلمات العربيّة. لكى تتحقّق هذه الطفرة المعرفيّة الكبرى ينبغى أن تهضم اللّغة العربيّة ثلاث ثورات فكريّة أساسيّة: عِلميّة، وفلسفيّة، ودينيّة: أى كلّ فتوحات الحداثة. وأضف إليها ثورة فكريّة رابعة تتمثّل فى ترجمة الأعمال الكبرى للاستشراق الأكاديمى. نعم الاستشراق! فقد قدَّم خدمات واضحة عن طريق تطبيق المنهجيّة التاريخيّة ــ النقديّة على تراثنا المقدَّس للمرّة الأولى فى التاريخ. هل هذا قليل؟ ينبغى أن تهضم اللّغة العربيّة ذلك كلّه وتصهره فى بوتقتها الخاصّة كى يحصل التحرير الكبير المُنتظَر.

النص الأصلى

http://bit.ly/2kawYC3

التعليقات