بعد انقضاض القوات المصرية المسلحة (١٠ رمضان ١٩٧٣) على العدو على شواطئ سيناء الغربية بحوالى أسبوع، طُلب منى كموجه معنوى، وكنت خلال هذه الحرب المجيدة برتبة رائد وأشغل منصب معلم بالقوات الخاصة، أن أقوم بزيارة الجبهة مرافقا لعدد من القيادات بهدف مشاهدة ساحة الحرب والجارى فيها بعينى حتى يسهل على نقل هذه المشاهدات فى محاضراتى لرجال القوات الخاصة، والذين يتم إعدادهم لدفعهم للجبهة لضمان استمرار الضغط البطولى، الذى قامت به قواتنا الباسلة على العدو الصهيونى.
أذكر أننى بعد أن عبرت القناة من على الجسور المعدنية العائمة التى شيدها أبطال سلاح المهندسين واخترقت إحدى الفتحات الرملية بخط بارليف، بفضل الفكرة العبقرية التى قام بها سلاح المهندسين التى استخدموا فيها مدافع الماء. ووقع بصرى على التحصينات الصهيونية الهائلة التى استخدموا فيها، نظرا لندرة الصخور والحجارة ذات الأحجام الكبيرة على هذا الجانب، حاويات من السلك الصلب مملوءة بالزلط والحجارة متوسطة الحجم تم رصها فوق بعض لارتفاع بلغ العشرين مترا مع استخدام الأسمنت لبناء المداخل. شاهدت أعدادا هائلة من فوارغ القنابل العنقودية المحرمة دوليا منتشرة هنا وهناك، ودبابات العدو مدمرة ومذلولة وجنازيرها مفككة، ومدافعها منكسة وبعضها برج المدفع بالكامل مفصول منها وملقى على مسافة كبيرة من جراء ضربة مباشرة من صاروخ مضاد للدبابات، وكما هائلا من الأسلاك الشائكة لم أشهد مثله فى حياتى لا فى الأفلام الوثائقية الخاصة بالحرب العالمية الثانية ولا فى صور أى مواقع عسكرية بالكتب والوثائق. وهى كلها دلالات مؤكدة على خوف العدو وتحسبه بل ورعبه من القوات المصرية التى يواجهها على هذه الجبهة، والتى لم تتوقف لحظة طوال خمس سنوات ونصف من توجيه ضربات مؤلمة له كان أولها، يومى 14 و15 يوليه عام 1967، أى أسابيع بعد ما يسمى بالنكسة عندما قامت قواتنا الجوية بالانقضاض عليهم وتدمير مركباتهم وبعض التحصينات التى شيدوها.
منذ ذلك التاريخ وعمليات العبور الباسلة بقيادة الشهيد البطل الرفاعى ورجاله تتوالى ويتم خلالها تنفيذ عمليات تدمير وزرع ألغام وخطف عسكريين ومهاجمة قوافل، كما قام القناصة المصريون بقتل كل من تسول له نفسه مجرد الظهور على سطح رمال سيناء المقدسة. وهو ما أجبر العدو على الاختباء كالجرذان أسفل سطح الأرض طوال هذه السنين.
أصدرت مجلة «لايف» الأمريكية أواخر عام 1968 عددا ظهر على غلافه ضابط إسرائيلى يصرخ ويتألم والدماء تنزف من يده بغزارة، وكُتب على الغلاف ثلاثين ثانية كانت كافية لقناص مصرى لإصابة يد هذا الضابط عندما حاول أن يلوح بذراعه أمام صحفيين أجانب باستخفاف فى اتجاه القوات المصرية على الجانب الآخر من القناة. وعبرت كتيبة مشاة كاملة القناة أمام شواطئ الإسماعيلية، وتشبثت بموقع على الجانب الشرقى ورفعت علم مصر وفشلت كل محاولات العدو فى إحباط هذه العملية، وعادت الكتيبة كاملة لمواقعها بعد معركة شرسة كان لها النصر فيها بفضل الله.
• • •
لفت نظرى انتشار أعلام مصر أعلى تحصينات العدو المدمرة وأعلى خط بارليف ترفرف بعزة وكبرياء. كانت رائحة البارود خانقة وشاهدت الجنود والضباط يتحركون هنا وهناك وعلامات الفرح والكبرياء تظهر على وجوههم الشريفة. واستغرقت مهمتى حوالى الخمس ساعات على أرض سيناء وجهت خلالها العديد من الأسئلة للمقاتلين لتكوين تصور حديث وواقعى عن كل ما حدث يوم ستة أكتوبر (العاشر من رمضان). وما يهمنى تسجيله اليوم هو رد جميع المقاتلين على سؤالين محددين، لفت نظرى مطابقة الردود رغم بعد المسافات بينهم ورغم عدم وجود أى تنسيق أو ترتيب مسبق بينهم فردودهم وسردهم للتفاصيل كانت موحدة، وهو ما أثبت لى مصداقيتها والسؤالان كانا:
اشرح لى اللحظات التى سبقت الهجوم ثم التالية للهجوم؟ اشرح لى لحظة بلحظة عملية نزولك لركوب الزورق المطاطى وعبورك لمياه القناة فى اتجاه الضفة الشرقية ثم بلوغها، وصعودك الساتر الرملى ذي العشرين مترا ارتفاعا من الرمال الناعمة حتى انقضاضك أنت وزملاؤك على تحصينات العدو؟
كان ردهم جميعا باختصار أنه رغم توزيع الذخيرة الحية عليهم، وارتداء مهمات القتال كاملة، وملء الزوارق المطاطية بالهواء، ودفع دانات القنابل إلى داخل مواسير المدافع والدبابات، وتوجيه المواسير لأهداف تم تحديدها مسبقا، وتوزيع وجبة قتال لكسر الصيام فى المغرب ــ فقد كانوا جميعا صائمين أقباطا ومسلمين ــ إلا أنهم جميعا كانوا مقتنعين أنها عملية تدريب دورية ومناورة اعتادوا عليها مرات عديدة كل سنة طوال الخمس سنين والنصف المنصرمة.
• • •
مرقت فجأة أعلى رءوس المقاتلين وفى اتجاه الشرق مئات من الطائرات المقاتلة نسور مصر وانطلقت من جميع هذه الطائرات وابل من القذائف وسقطت منها القنابل لتحيل جبهة العدو إلى جحيم بكل ما تعنيه الكلمة. وانطلقت الدانات من آلاف المدافع ــ فورا وبشكل مستمر ــ لتضرب تحصينات العدو وتفجرها فى كل مكان، وتنطلق منها الشظايا والصخور وتدمر وتحرق أى معدة أو مركبة للعدو ظاهرة على الأرض. كل هذا فى عدة دقائق ثم صدر أمر الهجوم، ولك أن تتخيل ما حدث فبعد خمس سنوات ونصف ونحن نشاهد العدو يدنس أرض سيناء، ونشاهد علم إسرائيل مرفوعا على هذه الأرض المقدسة صدر لنا الأمر بإزالة هذا الاعتداء وهذا الدنس ومحو هذا الوجود من على أرض سيناء.
كان الزورق الذى يستدعى رفعه عشرة رجال، يرفعه خمسة بسهولة بالغة، والمدفع المضاد للدبابات الذى يستدعى شخصين لرفعه والتحرك به كان مقاتل واحد يرفعه على كتفيه وينطلق بسهولة به إلى شاطئ القناة لركوب الزوارق المحدد؛ وعند امتلاء كل الزوارق بآلاف مؤلفة من المقاتلين أكثر من ثمانين ألف مقاتل فى آن واحد انطلقت من حناجرهم هتافات القتال (الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر). كانت هذه الهتافات كالرعد بل دون مبالغة أعلى من صوت المدافع والقنابل والتفجيرات. وساعدت السواتر الرملية المرتفعة على جانبى القناة فى مضاعفة هذا الهدير الباسل، ولاحظوا انهيار قطاعات من السواتر الرملية بسبب ذبذبات هدير الهتافات، ثم أجمع الجميع أن لا أحد يذكر أية تفاصيل من لحظة مغادرة الزوارق المطاطية للضفة الغربية للقناة والوصول للضفة الشرقية ومهاجمة تحصينات العدو. أكد الجميع أن ما يذكروه فقط يبدأ عند سماعهم أذان المغرب والاشتباكات قد خبت دليلا على هزيمة العدو واستسلامه أمام هذه المفاجأة الهائلة. يذكر المقاتلون أنهم أخذوا يلتفتون حولهم ليشاهدوا جثث العدو منتشرة فى كل مكان وأجساد شهداء مصر الطاهرة ودمائها تروى رمال سيناء. وصلوا صلاة الخوف والمتابعة فى المعارك فى حراسة زملائهم من الأقباط، وبعد الصلاة والإفطار لاحظوا الكبارى المعدنية المنتشرة على مياه القناة التى شيدها سلاح المهندسين والدبابات تندفع من فوقها إلى سيناء.
لم أتمكن من الحصول على أية تفاصيل خاصة بمشاهدات عملية العبور ذاتها وعملية الانقضاض على التحصينات، وعدت إلى قيادتى والفخر يملؤنى، ولم يؤثر فيه الثغرة التى قام بها شارون؛ حيث إنه معروف فى العلوم العسكرية أن مثل هذه الثغرة من السهل جدا تدميرها.. رحم الله شهداء مصر الأبرار.