بعد أن سكتت المدافع أود أن أسجل الاعتزاز بالموقف المصرى الراسخ، الذى لم يهتز رغم أيام حالكة السواد، قاومت فيها مصر المجهود الإسرائيلى ــ الأمريكى للإجهاز على القضية الفلسطينية عبر مخطط تهجير سكان غزة من أراضيهم وبناء ما يسمى بـ«الريفييرا». كان الهدف واضحًا: طمس الوجود الفلسطينى فى قطاع غزة.
لكن القاهرة بثباتها التاريخى أبت أن تكون شريكة فى الجريمة، ووقفت شامخة فى وجه العاصفة، مدعومة من حكومات وشعوب عربية وإسلامية وأحرار من العالم، أعلنوا تأييدها لهذا الموقف، ولو بالكلمة، والموقف السياسى، فى وقت كان الصمت فيه نوعًا من التخاذل ولا أبالغ حين أقول خيانة الشعب الفلسطينى.
• • •
كما أهنئ الشعب الفلسطينى البطل الصابر المناضل؛ فسيظل هذا الجيل الذى عاصر تلك الحرب بثبات لا يمكن وصفه رمزًا خالدًا للتضحية والشجاعة، إن أبناء قطاع غزة الذين عاشوا تحت النار والجوع وتمسكوا بالأرض رغم فقد الأحبة والمنازل، أثبتوا للعالم عدالة قضيتهم، وأن الكرامة لا تُشترى ولا تُنتزع.
اليوم، وبعد أن هدأت المدافع، يمكن للفلسطينيين أن يلتقطوا أنفاسهم، أن يبكوا أحبتهم بحرية، وأن يتطلعوا إلى الأمام لإعمار بيوتهم ومزارعهم التى دمرتها الهمجية. لقد سقطت الأقنعة، وبقيت الحقيقة ساطعة: الاحتلال لا يريد سلامًا، بل يريد أرضًا بلا شعب.
أما عن خطاب الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى الكنيست الإسرائيلى، يوم الإثنين الماضى، أو ما سمعناه من تصريحاته فى شرم الشيخ فى ذات اليوم، فلم أفهم منه إلا أنه عودة متعمدة إلى أوضاع ما قبل السابع من أكتوبر ٢٠٢٣؛ تلك اللحظة التى سبقت انفجار الصراع، حين كانت القضية الفلسطينية فى حالة جمود كامل، والعالم منشغل باتفاقات التطبيع الأخيرة، وكأن فلسطين لم تعد موجودة على الخريطة.
كأن المطلوب اليوم هو إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل عامين من التنكيل بالشعب الفلسطينى الذى هز ضمير العالم، عبر استئناف اتفاقات التطبيع الأخيرة التى تطرح سلامًا مشوّهًا، وتطبيعًا مجانيًا، وتحالفًا إقليميًا تتزعمه إسرائيل فيما تبقى القضية الفلسطينية على الهامش. وهنا يقول المرء بثقة منطلقة من حقائق التاريخ أنه لا يمكن لأى نظام إقليمى أن يقوم، ولا لأى سلام أن يستقر دون حل عادل للقضية الفلسطينية.
• • •
أستطيع أن أقول إن التفكير الأمريكى ــ الإسرائيلى ذاهب إلى تثبيت كيان فلسطينى فى غزة (وربما كيانان، كما يجرى التفكير فى بعض الدوائر)، مع كيان آخر على ما يتبقى من الضفة الغربية، بحكومتين كما هو الحال منذ الانقسام الفلسطينى عام ٢٠٠٧، منذ انقلاب حماس على السلطة الفلسطينية. أما دولة فلسطينية موحدة فصار من المستحيل ــ إسرائيليًا وأمريكيًا على الأقل فى اللحظة الراهنة ــ أن ترى النور.
إن هذا الطرح ليس خيالًا، بل نوقش بالفعل ضمن مقاربات «كونفيدرالية» فى عدد من مراكز الفكر الدولية، مثل «بروكنجز»، التى تطرح نماذج لتقسيم الصلاحيات بين كيانين دون سيادة فلسطينية كاملة.
كان الإثنين يومًا طويلًا بين ما جرى فى الكنيست وما شهدناه فى شرم الشيخ من لقاءات ومشاهد دبلوماسية، لكن الومضة الأبرز فيه كانت كلمات الرئيس عبد الفتاح السيسى، التى وجهت إلى ترامب الرسالة التى لم يرد سماعها: لا استقرار فى الشرق الأوسط دون حل الدولتين، ودون اعتراف حقيقى بحق الفلسطينيين فى دولتهم المستقلة على حدود الرابع من يونيو ١٩٦٧ وعاصمتها القدس الشرقية. لقد كانت تلك لحظة فارقة، مواجهة مباشرة مع من اعتاد أن يفرض رؤيته على الجميع دون مناقشة. كلمات مصرية واضحة أعادت التذكير بالثوابت فى زمن الانكسارات السياسية.
• • •
إن العودة إلى ما قبل السابع من أكتوبر 2023، كما يريدها الأمريكيون والإسرائيليون، ليست إلا محاولة لإعادة عقارب الساعة إلى لحظة الوهم، حين ظن العالم أن فلسطين طُويت، وأن صفقات التطبيع تكفى لبناء شرق أوسط جديد دون عدالة. لكن ما حدث بعد ذلك التاريخ أسقط هذا التصور الزائف. لقد انفجرت الحقيقة فى وجه الجميع: لا يمكن تجاوز القضية الفلسطينية، ولا تجاهل شعب حى ما زال مستعدًا للدفاع عن وجوده.
لقد سقط وهم «إدارة الصراع» الذى تنتهجه حكومات الولايات المتحدة المتعاقبة، وآن أوان الاعتراف بأن الحل يبدأ من جذور القضية، لا من هوامشها. ومن يخطط لمستقبل الإقليم دون أن يضع الحق الفلسطينى فى صُلب المعادلة، فهو لا يبنى سلامًا، بل يُراكم أسباب انفجار آخر.