وصية امرأة من قرية مصرية قديمة - ياسمين الشاذلي - بوابة الشروق
الأربعاء 15 أكتوبر 2025 6:33 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. هل تنجح خطة الـ21 بندًا لترامب في إنهاء حرب غزة؟

وصية امرأة من قرية مصرية قديمة

نشر فى : الثلاثاء 14 أكتوبر 2025 - 7:10 م | آخر تحديث : الثلاثاء 14 أكتوبر 2025 - 11:38 م

كلّما ذُكرت مصر القديمة يتبادر إلى الأذهان الملوك وإنجازاتهم الاستثنائية، من انتصاراتهم فى ميادين القتال إلى مشاريعهم المعمارية المذهلة مثل أهرامات الجيزة ومقابر وادى الملوك ومعابد الكرنك والأقصر وأبو سمبل. وهذا ما تركّز عليه المناهج الدراسية والبرامج الوثائقية فى الغالب. ونتيجة لذلك يُنظر إلى المصريين القدماء على أنهم كائنات خارقة قادرة على أعمال تفوق قدرة البشر. غير أن معظم الناس لا يعرفون الكثير عن حياتهم اليومية، ولا يدركون أنهم، فى جوانب كثيرة، كانوا يشبهوننا نحن اليوم.

معظم ما نعرفه عن الحياة اليومية فى مصر القديمة يأتى من أعمال التنقيب فى المواقع السكنية مثل دير المدينة.

ودير المدينة هو الاسم العربى الحديث لموقع سكنى يقع على الضفة الغربية لنهر النيل، مقابل مدينة الأقصر. يقع هذا الموقع فى وادى بين الجروف الصخرية، بين الرمسيوم (المعبد الجنائزى لرمسيس الثانى) ومدينة هابو (المعبد الجنائزى لرمسيس الثالث). كان يسكن قرية دير المدينة العمال الذين قاموا بحفر وتزيين المقابر الملكية المنحوتة فى الصخر فى وادى الملوك ووادى الملكات، وذلك منذ بداية الأسرة الثامنة عشرة وحتى أواخر عصر الرعامسة (حوالى ١٥٥٠ ق.م ــ ١٠٦٩ ق.م).

يُعد دير المدينة موقعًا فريدًا للغاية، إذ لم يقدم أى موقع أثرى آخر هذا الكم من المعلومات عن الحياة اليومية للمصريين القدماء. ويُعزى ذلك إلى بقايا المستوطنة الواسعة التى تحوى على منازل العمال وأسرهم وإلى العدد الكبير من الوثائق المكتوبة التى عُثر عليها فى القرية، والتى تتألف من البرديات و(الأوستراكا) أى شظايا الفخار أو رقائق الحجر الجيرى التى استخدمها المصرى لكتابة النصوص باختلاف أنواعها، والتدريب على الرسومات قبل أن يقوم بتنفيذها على جدران المقابر الملكية. لم تضم القرية منازل العمال فحسب، بل شملت أيضًا مقابرهم. والعديد من هذه المقابر مزينة برسومات رائعة تشهد على مهارة فائقة لهؤلاء الفنانين. كما احتوت القرية على عدد من المعابد المكرسة لمجموعة من الآلهة ولشخصيات ملكية مؤلَّهة مثل الآلهة الحامية للقرية: أمنحتب الأول وأمه أحمس نفرتارى.

وقد حفر السكان حفرة كبيرة فى شمال القرية بحثًا عن الماء، لكنها استُعملت لاحقًا كمقلب للنفايات بعد فشلهم فى الوصول إلى المياه. وقد أُخرج من هذه الحفرة آلاف الأوستراكا. وتضم هذه الشظايا الحجرية والفخارية، إلى جانب البرديات الكثيرة المكتشفة فى القرية، نصوصًا أدبية وغير أدبية توفر معلومات قيّمة للغاية حول موضوعات متعددة مثل إدارة القرية، والزواج والطلاق والولادة والوفاة، والقوانين التى حكمت القرية، وأنواع الطعام الذى كان يتناوله العمال وطرق توصيله إلى القرية، والإضرابات التى حدثت بين العمال بسبب تأخر دفع أجورهم، والعبادات الشخصية التى نادرًا ما تظهر فى السجل الأثرى لأن معظم ما نعرفه عن الديانة فى مصر القديمة يتعلق بالديانة الرسمية.

 • • •

تُشير الدلائل الأثرية إلى أن القرية أُسست فى عهد تحتمس الأول (حوالى ١٥٠٣ ق.م ــ ١٤٩١ ق.م)، وربما كانت الفكرة من وحى أمنحتب الأول (حوالى ١٥٤٩ ق.م ــ ١٥٢٤ ق.م) والذى عُبد بعد وفاته كإله حامى للقرية مع وأمه الملكة أحمس نفرتارى. وعلى مدى خمسة قرون ظل المكان حيًّا يعجّ بالحياة والنقاش والعمل، حتى جاءت فترة حكم أخناتون (حوالى ١٣٥٢ ق.م ــ ١٣٣٥ ق.م)، والذى أسس عاصمة جديدة لمصر فى المنيا وأطلق عليها اسم (آخت آتون) فخلا المكان مؤقتًا قبل أن يُعاد بناؤه فى عهد حورمحب (حوالى ١٣٢٨ ق.م –١٢٩٨ ق.م) ويتوسع جنوبًا وغربًا.

وفى عهد رمسيس الثانى (حوالى ١٢٧٩ ق.م ــ ١٢١٢ ق.م) بلغت القرية أوجها. كان طولها نحو ١٣٠ مترًا وعرضها خمسين، تضم نحو ١٢٠ منزلًا أبيض اللون تتوزع على شارع رئيسى وأزقة ضيقة. لم تكن المنازل متشابهة فحسب، بل تشابهت الأرواح التى سكنتها: أسر تعيش ببساطة، تؤدى عملها بإتقان، وتحتفظ فى كل بيت بمحراب صغير به تماثيل للأسلاف أو لآلهة تحمى أسرهم. كانت الحياة تسير وفق إيقاعٍ دقيق من النظام والانضباط، لكنّها لم تخلُ من الصراعات البشرية التى نقرأ عنها اليوم فى البرديات.

وقد كان عمّال دير المدينة يقضون معظم أيام الأسبوع فى العمل داخل المقابر الملكية فى الوادي، بعيدًا عن منازلهم فى القرية. ولتجنّب العودة اليومية عبر الجبال، أقاموا مجموعة من الأكواخ الحجرية الصغيرة فوق الهضبة الواقعة بين القرية ووادى الملوك. كانت هذه الأكواخ بسيطة للغاية، مبنية من الحجارة غير المشذبة، وتُستخدم للنوم والراحة وتخزين الأدوات والطعام خلال فترة العمل الأسبوعية، وقد كشفت الحفائر الأثرية عن بقايا هذه الأكواخ، التى تُعدّ من أقدم الأمثلة على المستوطنات المؤقتة الخاصة بالعمال فى التاريخ المصرى القديم، وتمنحنا صورة ملموسة عن حياة العمّال اليومية وتنظيمهم الدقيق بين العمل والراحة. كانت النساء يبقين فى القرية مع أطفالهن، بينما لم يكن الرجال يعودون إلا فى عطلة نهاية الأسبوع.

• • •

ومن الشخصيات التى عرفناها من دير المدينة السيدة ناو نخت والتى كانت من أبرز نساء القرية، إذ وصلت إلينا سيرتها من خلال وصيتها الشهيرة المحفوظة على بردية تعود إلى عصر رمسيس الخامس (حوالى القرن الثانى عشر قبل الميلاد).

وتُعدّ هذه الوثيقة من أهم النصوص القانونية والاجتماعية التى أضاءت لنا جوانب الحياة العائلية والحقوقية فى مصر القديمة.

كانت ناو ناخت امرأة من الطبقة الوسطى فى القرية، متزوجة من أحد كبار العمّال فى المقابر الملكية يُدعى خاع إمنون ومن خلال وصيتها نعلم أنها كانت أمًّا لثمانية أبناء، لكنها لم تعاملهم جميعًا على قدم المساواة. فقد أوصت بأن يُقسَّم إرثها بين أولادها الخمسة الذين أحسنوا معاملتها فى حياتها، بينما حرمت ثلاثة من أبنائها من الميراث لأنهم ــ كما قالت ــ «لم يكونوا يهتموا بى عندما كنت على قيد الحياة».

تُظهر هذه الوصية أن المرأة المصرية فى دير المدينة كانت تتمتع بحقوق قانونية واقتصادية واسعة، إذ كان لها الحق فى امتلاك الممتلكات والتصرّف بها كما تشاء، بل وحتى فى حرمان أحد أبنائها من الميراث. كما تعكس الوثيقة أيضًا نظامًا قضائيًا منظمًا، حيث صيغت الوصية أمام شهود وبحضور كتبة رسميين من القرية. تكشف قصة ناو ناخت عن صوتٍ أنثوى واضح فى مصر القديمة، صوت امرأة واعية بحقوقها، تعرف قيمة نفسها ومكانتها، وتصرّ على أن تُعامل بالاحترام الذى تستحقه. إنها تذكير بأن الحياة فى دير المدينة لم تكن فقط حكاية عمّالٍ نحتوا مقابر الملوك، بل أيضًا حكاية نساءٍ ساهمن فى صياغة التاريخ الإنسانى بصوتهنّ وإرادتهنّ.

وناو نخت شخصية واحدة من مئات الشخصيات التى نعرفها من دير المدينة وهناك غيرها الكثير من داخل وخارج هذه القرية الهامة الذين يعرف قصصهم المتخصصون دون غيرهم وأنه لبالغ الأهمية أن يكشف النقاب عن قصص من حياة أناس من كل طبقات الشعب والتى شكلت كل منها منفردة ومجتمعة قصة هذه الحضارة العظيمة.

 

 

ياسمين الشاذلي معاون وزير الآثار لشئون المتاحف الأسبق والمشرف على إدارة المنظمات الدولية والتعاون الدولي الأسبق
التعليقات