بعد الانتخابات الرئاسية، ينتظر مصر العديد من التحديات الاقتصادية والجيوسياسية والأمنية. فى السطور التالية سأحاول الوقوف على أبرز التحديات الاقتصادية التى بدت مؤجلة لما بعد انتهاء الاستحقاق الانتخابى لمصر. التحدى الأول يتمثل فى انفلات التضخم الذى يلقى بظلاله السلبية على جميع مظاهر الحياة والتنمية. التضخم يلتهم الأجور الحقيقية ويضعف القوة الشرائية للمواطنين مما يعمل كمثبط للنمو. كذلك يدمر التضخم الجامح فرص الاستثمار ويجعله يخصم الفرص الاستثمارية بتكلفة كبيرة، بمعنى أنه لا يضع أمواله فى أى مشروع من المتوقع أن يأكل التضخم أرباحه الحقيقية إلا إذا انتظر مقابلا أكبر فى صور مختلفة من تخفيض كبير فى سعر الأسهم التى يشتريها أو مزايا ضريبية أو تنازلات تتعلق بحق الدولة فى المسائل المتعلقة بحماية البيئة.. إلى غير ذلك من أمور. كذلك يعمل التضخم الجامح على زيادة حدة الفقر، وتعانى مصر من أزمة مزمنة فى معدلات الفقر التى بلغت نحو ثلث تعداد السكان (قبل الموجات التضخمية الحديثة وبدون اعتبار المؤشرات العالمية المعدلة لقياس الفقر) .. يزيد التضخم من حدة الفقر، ويهدد بشكل مباشر الفئات المهمشة والضعيفة التى تقع على الحافة من خط الفقر والتى يسهل نزولها تحت الحد الفاصل، وتلك تقدر بالملايين.
• • •
التضخم إذن هو العدو الأكبر لمصر فى هذه اللحظة الفارقة، ويليه فى الإلحاح والخطورة وربما يسبقه تعدد أسعار صرف الدولار الأمريكى، والاتجاه المتزايد نحو الدولرة. أقول يسبقه لأنه يعد الرافد الأبرز المغذى لذلك التضخم، إذ ينقل عبر سعر الصرف جميع التقلبات العالمية بصورة مضاعفة إلى قيمة الجنيه المصرى، كما يعد الشح الدولارى الناتج عن العجز المزمن والمتزايد فى ميزان التجارة سببا مباشرا فى تراجع قيمة الجنيه، وانحسار الثقة فيه إلى مستويات غير مسبوقة. تعدد أسعار الصرف سبب آخر لعزوف الاستثمار الأجنبى والمحلى أيضا. السوق الموازية أصبحت تتعامل مع سعر للدولار يبعد «كثيرا» عن السعر الرسمى، وهذا الأخير لم يعد الجهاز المصرفى يوفر عنده الدولار إلا للقليل من الاحتياجات الضرورية التى باتت وكأنها مدعومة من الدولة بقيمة الفرق بين سعرى الدولار فى السوق الرسمية والموازية.
تعدد أسعار الصرف يتسبب تدريجيا فى تحول المواطنين إلى تسعير كل السلع والخدمات بالدولار ولو بصورة غير رسمية. حتى مقابل العمل يتم تقديره بالدولار لأنه من غير المقبول أن ترتفع الأجور نظريا بقيمة 20% مثلا بينما يفقد الجنيه 40% من قيمته فيصبح العامل أفقر من ذى قبل على الرغم من ارتفاع أجره الاسمى. يتجه البعض أيضا إلى التعامل مع الدولار كمخزن للقيمة وهى إحدى وظائف العملة لكن الإفراط فيها يحول تلك العملة إلى وعاء استثمارى، حيث بات السؤال المتكرر من بعض المواطنين الذين ما زالت لديهم قدرة على الادخار هو: أين أضع أموالى، فى الذهب أم فى الدولار؟! وهذا التيار من الدولرة يهدد سيادة الدولة على عملتها، وهو ما نسميه بالسيادة النقدية التى تعد من أهم مظاهر السيادة بصفة عامة.
على الجانب الآخر أصبح الكثير من إنجازات مصر خلال الأعوام الأخيرة على المحك بسبب أزمة الشح الدولارى، حتى أطلت أزمة الطاقة برأسها من جديد بعدما تمكنت مصر من تطوير وتأهيل بنيتها الأساسية المتعلقة بإنتاج ونقل وتوزيع الكهرباء، كما تمكنت من إبرام الاتفاقات الخاصة بترسيم الحدود البحرية والتى ساعدت فى تطوير قدراتها الكشفية عن الغاز الطبيعى.. كل ذلك لم يمنع من عودة أزمة انقطاع التيار الكهربائى التى ودعناها منذ قرابة العقد حتى يتسنى توفير الغاز الطبيعى للتصدير وتدبير العملة الصعبة.
ولو كان الطلب على العملة الصعبة هو طلب مشتق فقط من الطلب على الاستيراد من السلع تامة الصنع والرفاهية، لكان حل تلك المشكلة فى ترشيد فاتورة الاستيراد، ولكنه طلب مشتق من استيراد سلع أساسية ومدخلات إنتاج بدرجة كبيرة. كذلك الطلب على الدولار هو طلب مرتبط بالحاجة إلى تدبير عملة صعبة لسداد فاتورة كبيرة من الدين الخارجى بلغت 165 مليار دولار، وهو دين ينمو بمعدلات كبيرة وغير معتادة، ويؤثر سلبا على جدارة مصر الائتمانية مما يرفع من تكلفة الأموال التى تحتاجها مصر للتنمية، فى وقت يعانى فيه العالم من ارتفاع كبير فى تكلفة الأموال.
من هنا تكون أزمة الدين هى الأزمة الثالثة التى تنتظر الرئيس المقبل حتى يضع لها حلا جذريا يقوم على أسس ثلاثة: إعادة الهيكلة، تقييد الاستدانة، استبدال الديون.. ولا يمكن أن تتم إعادة الهيكلة إلا فى إطار اتفاق إقليمى أو أممى، حتى لا تعاقب مصر اقتصاديا لفترة طويلة كدولة متعثرة عاجزة عن السداد. كما أن تقييد الاستدانة، خاصة الدين الخارجى يجب أن يرتبط بمبدأين أولهما وحدة الموازنة العامة (فلا يتم خلق أى مديونية جديدة إلا من مصدر واحد)، وثانيهما القاعدة الذهبية التى تقضى بعدم الحصول على أى قرض أو تمويل بالدين إلا بجدوى اقتصادية (وليس اجتماعية فقط) بأن يتم استثماره فى مشروعات تحقق عائدا أكبر وبالعملة الصعبة. ويتم مبادلة الديون بالأسهم فى بعض الشركات والمشروعات القائمة، شريطة ألا تكون تكلفة المشاركة cost of equity أكبر من تكلفة الدين cost of debt.
• • •
بالإضافة إلى الأزمات الاقتصادية الأخرى والأمراض المزمنة التى سبق أن تناولناها فى العديد من المقالات السابقة وفى مقدمتها العجز المزدوج فى الموازنة العامة وميزان المدفوعات، والذى يجب التصدى له للوصول إلى مخرج اقتصادى مستدام من أزماتنا المتكررة. فإن التعامل بسرعة مع تلك الأزمات المتفجرة (التضخم وسعر الصرف والدين العام) هو أولوية أولى أمام الرئيس القادم.
ولا أظن أن العام الحالى سينقضى دون أن تشهد مصر تشديدا نقديا وماليا كبيرا، بغرض السيطرة على التضخم.. ويتمثل ذلك فى رفع كبير فى أسعار الفائدة لامتصاص فائض السيولة (مع السيطرة بالتأكيد على المعروض النقدى بالحد من طباعة البنكنوت).. كما لا أتصور أن تخلو حلول المركزى المصرى من منتجات بأسعار فائدة مغرية بالدولار والجنيه لتكوين مخزون دولارى مناسب، يسمح بقدر من المرونة فى سعر الصرف، يتمثل فى تحريك الجنيه مقابل الدولار فى نطاق سعرى معلن يتم تحديده وفق مؤشرات معلومة ومراجعته دوريا (كل نصف سنة أو سنة مثلا). كما يتمثل التشديد المالى فى الحد من الإنفاق الحكومى وخاصة على المشروعات التى تستنزف الموارد الدولارية الشحيحة، وتستغرق زمنا طويلا قبل أن تغل أى منفعة اقتصادية على المواطنين. هذا النوع من التشديد يعمل سريعا على محاصرة التضخم ويهدئ من جموح ارتفاع الأسعار. وكذلك يساعد إنفاذ وثيقة سياسة ملكية الدولة على تحقيق قدر من الضبط المالى؛ حيث تتخارج الدولة من النشاط الذى لا تمتلك فيه أى مزايا نسبية فى الإدارة والحوكمة.
من ناحية أخرى سيكون على الحكومة إقرار قيد واضح لأى قروض جديدة بالعملة الصعبة يعمل البرلمان وسائر الأجهزة الرقابية المعنية على متابعتها. وأقترح أن يتم تشكيل وحدة للدين العام مستقلة عن الحكومة وتابعة مباشرة للبرلمان، تتأكد من تطبيق السياسة الجديدة للدين العام.
• • •
كل ذلك لن يستطيع الرئيس المقبل أن ينفذه بغير فريق اقتصادى مؤهل، يعرف كيف يضع استراتيجيات قابلة للتنفيذ، ويعرف كيف يتم تسويق أهدافه وخططه للمجتمع المصرى والمجتمع الدولى الدائن والمستثمر.. ويعرف كيف يقود مفاوضات إعادة الهيكلة للديون وتحقيق التخارج الضرورى من المشروعات التى تنافس القطاع الخاص.. ولا أعتقد أن هذا الفريق يمكن أن يتضمن الكثير من الوجوه الحالية التى لم تعد تحظى بالحد الأدنى من الثقة فى أدائها الروتينى، ناهيك عن الأداء المبتكر والمعزز بالأفكار الجديدة.