يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية تعيش هذه الأيام فصلا من رواية عبثية ترمى إلى رفع الملل والرتابة عن الجماهير، أو جولة من جولات مباراة مصارعة حرة يعلم الجميع أنها محض تشخيص واستعراض للقوة، وأن الضربات التى يعلو معها صياح المشاهدين لا تعدو أن تكون حركات تمثيلية.
الموجة الحمائية والصيحات الشعبوية التى أطلقها الرئيس الأمريكى فى حملته الانتخابية، وظن الكثيرون أنها لن تكون قابلة للتطبيق على أرض الواقع، ولن تقبلها المؤسسات الأمريكية إذا ما حدثت المعجزة وتم انتخابه! بدأت تتحقق فى سلسلة من القرارات ومشروعات القوانين، ولم تظهر مقاومة جادة من المؤسسات إلا فى صورة استقالات من وظائف مهمة، يبدو أن السيد «ترامب» لا يعير أصحابها أى اهتمام!
بالأمس القريب قرر «ترامب» المضى قدما فى خطة فرض رسوم حمائية على واردات الولايات المتحدة من الحديد والألومنيوم قدرت بـ25% و10% على التوالى والترتيب. الخطة تهدف فى تصريحات الرئيس الأمريكى إلى حماية صناعة الصلب التى هى عصب وجود كل أمة، إذ يقول: «الصلب هو الصلب، وبدونه أنت لا تملك دولة». هو محق بالطبع فى تقديره لصناعة الحديد، والصناعات الثقيلة عموما والتى يقاس تقدم الأمم بنصيب الفرد من إنتاجها، كأحد أهم مؤشرات التنمية، يقول تعالى: «وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَ اللهَ قَوِيٌ عَزِيزٌ».. لكن الحرب التجارية التى أطلقها الرئيس الأمريكى بتلك الخطة، ومن قبلها قيود انتقال العمالة من المكسيك، وهجومه المستمر على الصين التى كثيرا ما اتهمها بأنها تغرق بلده بمنتجاتها، ونظرته عامة إلى عجز ميزان التجارة الأمريكية باعتباره معوقا خطيرا للنمو.. كلها رؤى تتضارب بشدة مع الفكر الكلاسيكى والنيو كلاسيكى المهيمن على الاقتصاد الأمريكى منذ عقود والمسمى mainstream أو التيار الرئيس. التجارة التى يبدو أن «ترامب» يراها مجددا معادلة صفرية، استقر الفكر الكلاسيكى على كونها تحمل مزايا مشتركة لأطراف التجارة المختلفة، وأنها تؤسس على مزايا نسبية وتنافسية يمتلكها كل اقتصاد بل ويمكنه خلق بعضها، وأن لذلك مردوده الإيجابى على التخصص وتقسيم العمل، وتحسين الكفاءة والإنتاجية وزيادة النمو.. لا عزاء إذن لآدم سميث وريكاردو فى البيت الأبيض بعد أن تنتشر تلك الأفكار الحمائية وتسود فى معقل الاقتصاد الحر فى العالم.
***
خطة «ترامب» الحمائية لمنتجات الحديد والألومنيوم يمكنها أن توفر بضع مئات من الوظائف فى الداخل الأمريكى (قدرت بنحو 500 فرصة عمل)، الذى يشهد بالفعل انتعاشا فى سوق العمل، وطفرة فى نمو الاقتصاد. لكن الحرب التجارية التى يمكن أن تشعلها مع الصين والبرازيل والاتحاد الأوروبى وغيرها من الدول التى ربما لا يستثنيها «ترامب» من رسومه كما أكد فى خطابه الذى ألمح خلاله إلى وجود قليل من الاستثناءات.. سوف يكون ضررها أكبر كثيرا على الاقتصاد الأمريكى والاقتصاد العالمى. الكفاءة التى تخلقها التجارة الحرة لها وفورات كثيرة، بالتأكيد سوف تعوض المكاسب المباشرة المحدودة للرسوم الحمائية. سياسة العين بالعين أو ما يسمى tit for tat تخلق موجات ثأرية ضارية، من شأنها أن تقوض النمو العالمى، وأن تدخل العالم فى بعض التقديرات شديدة السوء مرحلة شبيهة بثلاثينيات القرن الماضى الذى اشتعلت فيه حروب التجارة لتعمق من أزمة الكساد الكبير. بالتأكيد هناك من يهون من أثر قرارات ترامب ولا يراها إلا فى سياق الضجة الإعلامية وإحراز بعض المكاسب السياسية المحلية قبيل الانتخابات النصفية فى نوفمبر القادم، وذلك كون تجارة الصلب والألومنيوم لا تمثل أكثر من 2% من حجم التجارة العالمية، فضلا عن اختلاف وضع الاقتصاد العالمى اليوم عن نظيره فى الثلاثينيات من حيث تسارع معدلات النمو، كما وأن كلا من الاتحاد الأوروبى والصين قد أبديا شيئا من السيطرة على ردود الأفعال تجاه القرار الأمريكى إدراكا منهما بأهمية التجارة كوقود للنمو فى كليهما وتراجع تلك الأهمية نسبيا فى الاقتصاد الأمريكى ومن ثم فإن أى حرب تجارية سوف تحرقهما أولا. يمكن الاستدلال على ذلك من تصريح «سيسيليا مالمستروم» مندوب التجارة بالاتحاد الأوروبى، والذى قالت فيه ما مفاده إنها تتجنب المعاملة بالمثل لتفادى نشوب حرب تجارية لن يربح فيها أحد.
***
لكن على الرغم من كل تلك الاعتبارات يظل لهذا النوع من القرارات العدائية تداعيات كامنة يمكنها أن تتفجر فى أى وقت. وها هو «جارى كوهن» كبير مستشارى الرئيس الأمريكى الاقتصاديين يتقدم باستقالته اعتراضا على القرار بعد نحو 14 شهرا قضاها فى البيت الأبيض. كذلك أشعل القرار انقساما فى البيت الجمهورى، حيث أبدى عدد كبير من الجمهوريين النافذين فى الحزب رفضهم لتقييد التجارة، ووقع أكثر من 100 عضو جمهورى مذكرة رافضة للقرار منذ أيام، وأعربوا عن خوفهم من المعاملة بالمثل التى يمكنها أن تصنع حربا تجارية عالمية، وتتحول تبعاتها إلى ضريبة على المصنع والمستهلك الأمريكى على السواء. جدير بالذكر أن عضوا جمهوريا واحدا من الكونجرس الأمريكى لم يحضر التصريح الرئاسى الخاص بفرض الرسوم فى البيت الأبيض. ومن المثير للسخرية أن بعض المدافعين عن حمائية «ترامب» يضعونها فى سياق حرصه على الفقراء، وأن حرية التجارة لا تخدم غير الأغنياء! وهذا يتناقض كثيرا مع قرارات الرئيس نفسه التى ميز خلالها شريحة رقيقة جدا من أغنياء الولايات المتحدة فى دفع الضرائب!
فى المقابل وجد الرئيس الأمريكى دعما من بعض أعضاء الكونجرس الديمقراطيين أمثال «تشاك شومر» الذى صرح بأن «ترامب» قد رأى بعينه ما عمى عنه كل من «بوش» و«أوباما» وأن تلك السياسات يجب أن توجه بشكل حاسم ضد الصين. لكن الصين ليست المصدر الأكبر للصلب بالنسبة للولايات المتحدة، بخلاف البرازيل المتهم الأول عن فقد آلاف مئات الأمريكيين وظائفهم فى قطاع الصلب، فهى مع كندا تمثلان وحدهما ثلث الواردات الأمريكية من الصلب. ولا تحتل الصين سوى 3% فقط من حجم تلك الواردات، بل إن دولة أوروبية حليفة مثل المملكة المتحدة عليها أن تبحث لصادراتها المحدودة للولايات المتحدة البالغة قيمتها 360 مليون جنيه استرلينى سنويا عن موطن آخر بعد فرض تلك الرسوم.
***
«ترامب» ليس الوحيد الذى أقدم على تلك الخطوة فى السنوات الأخيرة. الرئيس الأمريكى الأسبق «جورج دبليو بوش» سبق له فى عام 2002 أن أعلن عن نيته فرض رسوم حمائية على منتجات الصلب نسبتها 30% معللا ذلك بما يردده «ترامب» اليوم بحرصه على حماية الأمن القومى الأمريكى. لكن زعماء أوروبيون اعترضوا على تلك الخطوة فى منظمة التجارة العالمية، وكسبوا العديد من قضايا التحكيم فى النزاعات التجارية ضد الولايات المتحدة، بل وقد وصل الخلاف إلى عائلة «بوش» نفسه، الذى كان أخوه حاكما لفلوريدا التى تأذت صادراتها من البرتقال على خلفية هذا القرار، الذى قام «بوش» بسحبه بعد أسابيع.
الولايات المتحدة الأمريكية تلك الدولة الناشئة التى قادت العالم فى سنوات قليلة بعد استقلالها وتوحيدها، تقوم على دستور وضعه الآباء المؤسسون بعناية فائقة، وصنعوا به توازنات كثيرة للغاية، وأنشأوا به عددا من الثوابت التى لا يمكن المساس بها وإلا فقدت الدولة تماسكها وبالطبع أسباب ريادتها وقيادتها للعالم. منظمة التجارة التى اتهمها «ترامب» بأنها تعمل ضد مصلحة بلاده تمهيدا لرفضها المحتم لقراراته الحمائية، تدعوه كسائر العقلاء إلى الجلوس إلى مائدة التفاوض للبحث عن مخرج وحلول جماعية لأزمات فوائض الإنتاج وتفاوت مستويات الأجور عبر الحدود.. وغيرها من مشكلات، لكن المرجح أن الإدارة الأمريكية الحالية تؤثر العمل المنفرد.