جاء مكانها على يمينى فى الطائرة. لم تلفت انتباهى معظم الوقت الذى قضيناه معا فى رحلتنا. العذر عذرى فقد انشغلت بحديث طويل ومتشعب مع الجارة التى احتلت موقع اليسار منى. انشغال توقف عندما انتهت من إملاء مقال فى موضوع شعرت أننى مهتم بفكرته. ما إن انتهت من الإملاء حتى غفت فى نوم بدا لى عميقا. عدت بعدها أعتدل فى جلستى وأضع السماعة استعدادا لفاصل أقضيه مع الموسيقى، وبنظرة خاطفة قبل تشغيل الصوت أدركت أن جارة اليمين ما زالت تتابع مسار الطائرة على شاشة الكومبيوتر. لم تقرأ طوال الرحلة، هكذا لاحظت. ولم أسمعها تنطق لأحد بكلمة. بل لم تخضع للفضول. لم تبد أى اهتمام بجارين انشغلا ببعضهما لساعات وأهملاها. الآن فقط التقطت نظرتى الخاطفة وحولتها إلى فرصة للتعارف.
***
قالت أرجوك لا تغضب من تصرفى بل أتمنى لو تتدخل لدى جارتك لتقبل اعتذارى. لم أهتم بمن حولى فقد نشأت فى بيئة لا تشجع الناس، حتى الأطفال بينهم، على ممارسة التنصت على المتهامسين. لم أتعمد التنصت عليكما ولكن صوتكما كان أحيانا أعلى من طبقة الهمس الخافت. سمعتك تطلب منها مقالا ثم بعد همس متبادل سمعتك تعرب لها عن استعدادك تسجيل ما تمليه عليك. سكتت برهة قبل أن تستدير وتسأل السؤال الذى انتظرت..
«سيدى، هل بقى فى مشروعك مكان لرواية من امرأة أخرى بلغت فعلا الأربعين من عمرها ولديها الكثير الكثير لتقوله فى هذا الموضوع. لديها حكايات عما فعله بها زمن، هو فى حساب عذاباتها، أطول من أربعين عاما».
***
أتصور أن إشارات غير قليلة بدرت من ناحيتى شجعتها. كنت أمام وجه تجاعيده فشلت فى إخفاء جماله. أظن أننى حملقت للحظة وبأدب فى هذا الوجه معجبا بسمرة طبيعية أخاذة ومنبهرا بعينين نفاذتى النظرة ومشدودا إلى شفتين حاسمتى القرار يصعب أن تفلت من تأثيرهما إرادة حتى لو قوية أو عزيمة حتى لو صلبة وعاطفة حتى لو باردة. تكلمت فخرجت الكلمات متآلفة ومرتبة وحروفها منتقاة بكل عناية. تقول ما تقول بثقة متناهية وتصل إليك واضحة لا تحتمل التشكيك أو التردد فى فهمها. قلت لنفسى: مثل هذه المرأة لا يمكن أن يتحمل العيش معها تحت سقف واحد رجل عادى. الرجل العادى لن يعرف أن لمثل هذه المرأة وقت للمداعبة ووقت للعمل لا يتشابكان أو يمتزجان. لن يعرف كيف يتعامل بمنظومة أخلاقه العادية مع منظومة قيم غير عادية. تستطيع أيها الغريب عنها أن تدرك بعد قليل من اختلاطك بها مستمعا كنت أم منبهرا بالوجه أم محاورا أنك أمام أصل الأشياء. هكذا كانت المرأة فى أحلى العصور، هكذا كانت الأخلاق فى أزمنة الفضيلة التى تمناها ورسم معالمها الفلاسفة فى كل الثقافات، هكذا يعيش الفرادى وسط زحمة البشر وفى عصور الانحدار. لابد أن تبحث عنهم كما تبحث عن إبرة فى كوم قش. لن تجدهم لأول وهلة ولكنهم هناك. سألتها من أى بلد خرجت وإلى أى ثقافة أو حضارة تنتمى. سألتها عن عائلتيها: الصغيرة والممتدة. من أين جاءت وأين قضت السنوات الأربعين وإلى أين هى ذاهبة؟
***
قالت: لن أجيبك حسب ترتيب أسئلتك. أولا أنا لا أعرفك. ثانيا علمتنى الأيام ألا أثق بمعارف الرحلات الجوية. ثالثا لن أطيل فالحكايات أغلبها سمعت عنها أو عشت مع شبيهاتها فى بلدك. استطعت من لون بشرتكما أن أخمن من أى بلاد أنتما. واستطعت من لهجتيكما أن أتبين بالدقة الممكنة بلد كل منكما. أنا من بلاد يعلمونكم فى بلادكم أن تجيدوا كراهيتها. لا أعتب عليكم ولا أعيب عليهم فنحن أيضا علمونا كيف نكرهكم. نتسابق فى المدرسة لا فى الدرس والتحصيل ولا فى عبقرية اللعب على الآلات الموسيقية ولا فى الركض والقفز، ولكن فى تخليق الكره لكم ثم الإبداع فى ممارسته. لستم وحدكم الذين نمارس فيكم البغض والكراهية فهناك من ينافسكم. كلكم تتآمرون علينا.
تمردت على هذه التنشئة فى المرحلتين الثانوية والجامعية. رفضت أن أتسابق فى الكره فخسرت الجوائز. كل الجوائز. فرضوا علينا رحلاتهم السياسية. كان يقال لأهالينا إن الرحلات والإقامة فى المخيمات إنما هى لتدريب الشابات على حب الوطن. عدت من كل رحلة لأعلن لأهلى أنها رحلات لإفساد الأخلاق وتشويه سمعة الفتيات. كان الوطن الذى يدعوننا إلى حبه غير الوطن الذى أحببته فى بيتى وفى صلواتى ومع أحبائى وأصدقائى. الوطن الذى أحببته كان بسيطا وكريما وصافيا وطاهرا وخاليا من أهل السوء وآكلى كرامة البشر. كنت أغنى له، للوطن أقصد، قبل النوم، وفى النوم أحلم ببطولاتى وتضحياتى فى الدفاع عنه. كان موجودا. لم أشعر يوما وأنا طفلة أو فى سن المراهقة أو فى شبابى أننى فى حاجة لحزب أو فرد يصنع لى صنما يحمل اسم وطن ويطلب منى أن أحبه لا لشىء إلا لأن هذا الوطن الصنم من نحت أصابعه.
***
قضيت فى السجن سنوات عديدة. أخرج لأدخل مع كل فوج جديد. رفضوا الوطن الذى صاغه جدودى وأساتذتى وشلة شبابى وأبى وأمى. أصروا على صيغة لوطن هم أصحابها. يروح السجانون، سجانو السجن وسجانو حقول الفكر والعمل، ويأتى غيرهم بصيغة لوطن غير صيغة أسلافهم ويطلبون منى أن أركع لها.. جربوا فى جيلى كل صيغ الوطن الممكنة. كم وطن انكسر وآخر انتكس وثالث رحل مغدورا به ليحل محله وطن مستأسد أو فارد جناحيه ولكن بلا عقل ولا قلب. أما أنا، المرأة المتمردة، فإلى السجن إذا حل وطن، وإلى السجن إذا رحل وطن.
***
سيدى، تسألنى إلى أين؟ حقيقة لا أعرف. كل ما أعرفه هو أننى قررت الرحيل. أحمل معى وطنى الذى ولد وشب فى بيتى، الوطن الوحيد الذى أعرفه وأرتاح إليه وأطمئن إلى طهره وعدله، أحمله معى فى حقائب سفرى. تركت لهم وطنهم. أتعرف لماذا؟ لعلك لم تقرأ ولم تسمع ما وقع لى فى بلدى التى يعلمونك فى بلدك أن تكرهها. كنت أقف فى مطلع ليلة بين رجال ونساء أكثرهم أعرف عنه نبل الأخلاق وصدق النوايا. فجأة ظهرت امرأة كاشفة عن صدرها ونافشة شعرها ومعها ستة أو سبعة «رجال» من حثالة البشر شكلا ومضمونا. صرخت فى وجهى بوابل من الشتائم ثم اندفعت نحوى وأسنانها السوداء مشهرة وسكينها يلمع فى يدها. تهجمت لتطردنى. حضرتك تتصور طبعا أنها تطردنى من المكان؟ لا يا سيدى، تهجمت لتطردنى من بلدى. صرخت فى وجهى صرخة لا تصدر إلا عن إنسان تحت المخدر. قالت اخرجى يا جاسوسة. أيتها الخائنة للوطن إرحلى عن بلدنا، اخرجى دى بلدنا إحنا وليست بلد العملاء من أمثالك وأمثال رفاقك. فجأة استدارت لتغادر المكان وقد عمت فيه آثار الفوضى والتخريب المتعمد وحريق هنا وحريق هناك ودماء تسيل على أكثر من وجه من وجوه الضيوف ممن هم على شاكلتى، خرجت وهى تهتف ومعها يهتف رجالها «تحيا بلدنا ويموت الخونة».
***
يومها، أيقنت أن هناك فى هذا البلد من لا يطيق وجودنا. البلد هى باليقين بلدهم كما أعلنت هذه المرأة وأشاوسها. يومها أدركت أن أربعين سنة من عمرى قضيتها هباء. شاب شعرى فى حب وطن مختطف. رأيت بعينى للمرة الثانية فى أقل من عشر سنوات، وليس بعيون أخرى، بلدا كانت فى الأصل بلدى، يعيش فيها أناس يمسكون الهراوات ويحملون الخناجر والسكاكين ويتحرشون ويغتصبون ويعتقلون، وفى النهاية ينصبون منصة فى مكان عام ليصدروا من فوقها أحكاما بإسقاط الوطنية والطرد إلى خارج البلاد.
***
أجبتك نصف إجابة. أعتذر عن إلمامى الضعيف بلغتكم العربية. الآن تعلم أنا من أين؟ ولكنك لا تعرف إلى أين؟ أنا نفسى لا أعرف. لا أحمل تأشيرة دخول إلى أى بلد. كلكم رفضتم استقبالى. كلكم قررتم أن أنضم ــ وقد تجاوزت الأربعين من عمرى ــ إلى عشرات الملايين من المهاجرين من بلاد انتهكت الأوطان فيها أو سلبت أو أحرقت أو دنست.
gmf.club@gmail.com