فى عام 1978 كانت الصين واحدة من أفقر دول العالم. منذ ذلك التاريخ ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى الحقيقى بأكثر من 8% سنويا فى المتوسط. على النقيض من ذلك فقد تراجع نصيب الفرد من الدخل فى قارة أفريقيا بشكل متواصل بين عام 1976 ومنتصف التسعينيات من القرن الماضى. ومنذ منتصف التسعينيات وحتى اليوم شهد نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى فى القارة ارتفاعات شديدة التقلب والتباين، بين دول غنية بالموارد الطبيعية، وأخرى تعانى شحا كبيرا يجعلها بالكاد قادرة على النمو.
اهتمت الصين بخلطة سحرية للنمو المستدام، قوامها: حفز الإنتاجية، وما تحققه من تراكم الاستثمارات فى رأس المال البشرى والمادى، وارتفاع معدلات الادخار المحلى، والحد من الزيادة السكانية وزيادة الرفاهية. الارتفاع الكبير فى الإنتاجية خلال العقود الأخيرة فى الصين كان محفزا فى البداية بإنتاجية القطاع الزراعى، ثم بنمو مطرد فى إنتاجية المشروعات العامة بالقرى والبلدات township and village enterprises فى الثمانينيات والتسعينيات، ثم بالشركات المملوكة للقطاع الخاص والقطاع العام المعاد هيكلته فى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين.
النمو فى مصر وغالبية دول قارة أفريقيا كان غالبا محفّزا بالاستهلاك وبصادرات المواد الخام والسلع غير المصنّعة. وبينما انتقل عدد كبير من القوى العاملة من العمل فى القطاع الزراعى إلى العمل فى قطاع الخدمات وفى الاقتصاد غير الرسمى منخفض الإنتاجية بطبيعته.. فإن الغالبية العظمى من القوى العاملة مازالت تعمل فى القطاع الزراعى والقطاعات المرتبطة به. يمكن لسياسات التحول إلى التصنيع، وزيادة القيمة المضافة فى سلاسل الإمداد الزراعية والتعدينية، وتنويع الصادرات السلعية والخدمية أن تساعد اقتصادات أفريقيا على زيادة الإنتاجية والقدرة على التكيف مع المتغيرات العالمية.
كذلك تعلّمنا التجربة الصينية أن تعزيز الإنتاجية كان من خلال سياسات تستهدف القضاء على الفقر، فبين عامى 1981 و2004 انتقلت الصين من دولة يعيش ثلثا سكانها على أقل من دولار أمريكى فى اليوم، إلى دولة يعانى أقل من 10% من سكانها من الفقر، ثم حاليا ووفقا لأحدث بيانات متاحة عن عام 2020 فإن 0,1% من السكان يعيشون تحت خط فقر 1,9 دولار/يوم أى إنه تم القضاء على الفقر المدقع تماما فى الصين!.
وبينما كان النمو فى الإنتاجية فى الصين مشفوعا بإصلاحات السوق، فإن هذا النوع من الإصلاحات لم يحقق المستويات المرجوة من تراكم رأس المال فى مصر وسائر دول القارة التى تبنّت برامج إصلاحات هيكلية متعددة منذ ثمانينات القرن الماضى.
• • •
بشكل عام، افتقر التحول الاقتصادى فى أفريقيا إلى إعادة تخصيص الموارد (خاصة فائض العمالة) من الأنشطة منخفضة الإنتاجية إلى القطاعات الحديثة عالية الإنتاجية مثل التصنيع. وقد أدى ذلك إلى إثارة الجدل حول ما إذا كان النمو المستدام يتطلب فى الواقع تحولا لصالح التصنيع؛ أو الارتقاء فى سلم الجودة فى القطاعات التى يمكن للبلدان فيها استغلال أنماطها الحالية للميزة النسبية والبناء عليها والحفاظ على النمو. نمط التنمية فى الهند (مثلا) يتجاوز مرحلة إعادة تخصيص الموارد من الزراعة إلى التصنيع، إلى إعادة تخصيص التحول إلى الخدمات عالية الإنتاجية. تمكّن الخدمات الحديثة مثل تطوير البرمجيات والمنتجات المصنعة البلدان المبتكرة وذات الخبرة التكنولوجية من الاستفادة من الخدمات كمحرك مهم للنمو. لكن هذا يتطلب استثمارا كبيرا فى رأس المال البشرى وتحديدا فى التعليم والبحث والتطوير، الذى أمكنه خلق كتلة حرجة من منتجى البرمجيات والمنتجات عالية التقنية، ساعدت بشكل حاسم على عملية التحوّل الاقتصادى فى الهند. وهنا أرى أن هذا التحوّل لم يتجاوز مرحلة التصنيع إلا بالقدر الذى يختزل فيه التصنيع على مفهوم الصناعات الثقيلة أو الصناعات التحويلية التقليدية، لكن صناعة البرمجيات والتطبيقات الحديثة، بل وصناعة نوعية جديدة من البشر، هى أيضا صناعة مهمة جدا لعملية التحوّل الاقتصادى، ويمكن أن تكون قاطرة للتنمية المستدامة فى الدول النامية.
من المؤكد أن رأس المال البشرى كان أحد عوامل التمكين العديدة فى النمو السريع للصين. وكمثال لاهتمام الصين برأس المال البشرى، فقد ارتفع متوسط سنوات الدراسة للبالغين الصينيين (15 عاما فأكثر) من 1,5 سنة فى عام 1950 إلى أكثر من 7,5 فى عام 2010، بزيادة خمسة أضعاف! ومنذ عام 1986 تتبنى الصين سياسة التعليم الإلزامى المجانى لمدة تسع سنوات، للتلاميذ الذين تزيد أعمارهم على ست سنوات فى جميع أنحاء البلاد، وتقدر وزارة التربية والتعليم أن أكثر من 99 فى المائة من الأطفال فى سن الدراسة قد تلقوا تعليما أساسيا شاملا لمدة تسع سنوات. هذا على الرغم من توافر بيانات أخرى تشير إلى أن متوسط أعوام الدراسة فى الصين تصل إلى 7,6 سنوات، وهو أقل من المتوسط العالمى البالغ 8,7 سنوات، مما يضع الصين فى المرتبة 101 بين 150 دولة وفقا لتصنيف world Economics.
وعلى الرغم من ارتفاع متوسط عدد سنوات الدراسة فى قارة أفريقيا بين عامى 1950 و2010 من 1,3 سنة إلى 5,2 سنوات (أى بنحو أربعة أضعاف) فإن الفارق الجوهرى بين الصين وأفريقيا بل وبين الأخيرة وكثير من دول شرق آسيا يكمن فى جودة التعليم. تحتاج أفريقيا إلى العمالة الماهرة حتى تتمكّن من محاكاة التجربة الصينية، بل وتحتاج إلى مواصفات تعليمية شديدة الخصوصية لمحاكاة التجربة التنموية الهندية سالفة الإشارة.
فى الصين يتم منح أكثر من 40 بالمائة من الدرجات العلمية فى التعليم العالى فى مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (ما يسمى بمجالات («STEM» فى المقابل، فإن عدد خريجى الجامعات الأفارقة فى تلك المجالات يقترب من 20 بالمائة فقط. المشروع 211 هو مسعى جديد للحكومة الصينية يهدف إلى تقوية نحو 100 جامعة ومجالات تخصصية رئيسية كأولوية وطنية للقرن الحادى والعشرين. مشروع 985 هو مشروع لتأسيس جامعات عالمية المستوى فى القرن الحادى والعشرين.
أحد المكونات الأخرى لرأس المال البشرى هى الحالة الصحية للمواطنين. وقد أثبتت الصين لعقود من الزمان، التزامها بتوسيع نطاق الوصول إلى الخدمات الصحية، بدءا من النظام الطبى التعاونى وما يسمى بـ«الأطباء الحفاة» فى الخمسينيات من القرن الماضى. تقدم هذه البرامج دروسا قيمة فى كيفية توفير الرعاية الصحية للمناطق الريفية التى تعانى من نقص الخدمات الصحية. وقد أطلقت مصر مبادرة 100 مليون صحة برعاية السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى لعلاج فيروس سى والأمراض المزمنة وغير السارية. وقد تضمّنت المبادرة العديد من الجوانب التى تخدم المرضى المصريين، وتساعدهم فى تجنب الإصابة بمضاعفات الأمراض المزمنة. كما تتبنى مصر تغييرا جذريا فى منظومة التأمين الصحى وجودة الرعاية الصحية التى يحتاجها المواطن وخاصة محدود الدخل.
• • •
كذلك استثمرت الصين بكثافة فى رأس المال المادى. تم تعبيد نحو ثلثى الطرق فى مختلف الأنحاء، مقارنة بنسبة منخفضة للغاية من الطرق المعبدّة فى أفريقيا. كما أن نصيب الفرد من استهلاك الطاقة فى الصين أعلى بعشرين مرة مما هو عليه فى نيجيريا (النفطية) أو كينيا. وفقا لتقديرات الاستثمار فى بداية العقد الأول من القرن الحالى، فإن أكثر من 45% من الناتج المحلى الإجمالى فى الصين قد تم استثماره فى رأس المال المادى. تشير بعض التقديرات إلى أن هذا الاستثمار فى رأس المال المادى قد ساهم فى 50٪ من نمو الصين فى سنوات ما بعد الإصلاح. وإذا كانت مصر تستثمر اليوم بكثافة فى رأس المال المادى مثل تمهيد الطرق والكبارى والأنفاق والسكك الحديدية وتغطية الترع وإنشاء محطات الطاقة.. فإنها تتطلع إلى تحقيق نمو معزز بقوة بهذا الاستثمار على غرار التجربة الصينية، وهذا لا يتحقق إلا بتحقيق تشابكات فعّالة بين تلك الاستثمارات من ناحية، وبين العديد من المشروعات عالية الإنتاجية فى القطاعين الزراعى والصناعى على وجه الخصوص، مع حفز الخدمات اللوجيستية والسياحية لتساهم بنسبة أكبر فى الناتج المحلى الإجمالى لمصر.
أما عن الادخار المحلى، فقد تم تسهيل الكثير من الاستثمارات التى غذت النمو الاستثنائى للصين من خلال معدلات الادخار المرتفعة. تشير البيانات إلى أن معدلات الادخار فى الصين تبلغ نحو 54 فى المائة (أى أكثر من ضعف دول منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية)، فى حين أن معدلات الادخار فى معظم الدول الأفريقية أقل بكثير من ربع ذلك المعدل! ويتراوح معدل الادخار فى مصر بين 6% و8%!. هناك حاجة إلى معدلات أعلى من الادخار فى أفريقيا ــ على المستويين العام والعائلى ــ للحفاظ على المستوى المطلوب من الاستثمار، وتحقيق مسار نمو سلس على المدى الطويل. ترتبط قرارات الادخار فى القطاع العائلى بمستوى الدخل، ومستوى عدم اليقين فى الأسواق، وطبيعة العلاقة بين الأجيال المتعاقبة، لأن الادخار يعنى مستقبلا أفضل للأجيال القادمة. علما بأن معدلات الفقر المرتفعة تؤثر سلبا على الادخار، ومن ثم على قدرة الدولة على الاستثمار دون الاعتماد المتزايد على الاستثمار الأجنبى والدين الخارجى.
ولا يمكن المرور على التجربة الصينية دون التوقّف عند معالجة أزمة الانفجار السكانى. انخفاض معدلات الخصوبة لا يرتبط فقط بتحسن مستويات المعيشة، وزيادة الادخار العائلى، ولكن يتصل أيضا بتحسين رأس المال البشرى للمرأة. وقد كانت سياسة الطفل الواحد التى تبنتها الصين بحزم طيلة سنوات، أداة مهمة للحد من الانفجار السكانى وتحسين جودة المنتّج البشرى فى البلاد. هذا المنتج البشرى الذى تساهم فى تكوينه مستويات الدخل المرتفعة، ومستوى التعليم والرعاية الصحية، لن يتحسّن فى مصر إلا بسياسات ملزمة للحد من الزيادة السكانية، وإعادة تخصيص الموارد لرفع مستويات معيشة السكان، وحول هذا الموضوع يطول الحديث.