«إنى أختلف تماما مع ما تقول ولكنى أدافع حتى الموت عن حقك فى أن تقول»، قول منسوب إلى الفيلسوف الفرنسى Francoisــ Marie Arouet المعروف باسم Voltaire الذى عاش فى الفترة من 1694 إلى 1778.
أعاد فولتير تأكيد مقولته فى عام 1758 ــ كتابة ــ عندما تم إحراق كتاب de l’esprit للكاتب (كلود أدريان هلفتيوس) بتوجيه من الكنيسة الكاثوليكية وجامعة السوربون بسبب ما جاء فى الكتاب من هجوم على ثوابت الديانة الكاثوليكية. فكتب فولتير إلى هلفتيوس «إنى أزدرى، Detest، ما تكتب لكنى مستعد للتضحية بحياتى للدفاع عن حقك فى ما تكتب».
موقف نبيل وشجاع بالنظر إلى أن هذا الكلام قيل فى عصر لويس الرابع عشر الملك الشمس، الذى قال «الدولة هى أنا» L'état c'est moi! وفى وقت كانت محاكم التفتيش لازالت تمارس فظائعها، حيث تم إعدام آخر شخص بأمر محاكم التفتيش وهو المعلم Cayetano Ripoll سنة 1826، وتم إلغاء محاكم التفتيش فى عام 1938 بعد وفاة فولتير بأكثر من خمسين عاما.
كان من السهل جدا فى هذا الزمن أن تحكم محاكم التفتيش بالإعدام حرقا لمجرد أن يتحفظ أحد على الحق الإلهى للملوك أو على حق الإقطاعى على إقنانه من عبيد الأرض أو أن يجاهر بأن الأرض تدور فى فلك الشمس.
• • •
وسرعان ما انتشر فكر فولتير وعبر القناة الإنجليزية، فنشر المفكر البريطانى John Locke كتابه A letter concerning toleration «رسالة بشأن التسامح»، وThomas Hobbes الذى نشر كتاب Leviathan ثم إلى باقى أوروبا.
لا شك أن الفكر الليبرالى حقق مكاسب كثيرة للإنسانية فى وقت كان الإنسان يبحث عن أبسط الحقوق مثل الانعتاق من الرق وأن يحكم عن طريق حكومة منتخبة وطبقا لدستور يمثل عقدا اجتماعيا، وأن تحصل المرأة على حقها فى الانتخاب وتحديد ساعات عمل العمال فى المصانع.
كان الفكر الليبرالى محركا لنيل هذه المكاسب، ولكن الفكر وحده لا يحقق شيئا إن لم يكن مقرونا بالعمل القادر على التضحية، فكانت الثورة الفرنسية سنة 1789 ثم كانت سنة 1848 التى أطلق عليها سنة الثورات فى أوروبا حين اشتعلت الثورة فى فرنسا والنمسا وأيرلندا ودويلات إيطاليا وألمانيا. وفى الجانب الآخر من المحيط الأطلسى كانت الحرب الأهلية الأمريكية التى انتهت سنة 1865 بانتصار الشمال وتحرير العبيد، ثم كانت كومونة باريس عام 1871، وأخيرا كانت الحرب العالمية الأولى وتهاوى العروش فى روسيا وألمانيا والنمسا وتركيا، وتلتها الحرب العالمية الثانية وسقوط النظم الفاشية فى إيطاليا وألمانيا، ثم كان الانتصار النهائى للفكر الليبرالى بانهيار وتفكك الاتحاد السوفيتى وسقوط حائط برلين.
لم يألُ الغربيون جهدا فى الترويج والتهليل لانتصار فكرهم وعقيدتهم بدعاوى أننا وصلنا إلى نهاية التاريخ وضرورة تطبيق العولمة للفكر الغربى، الذى يجب أن يسود كما تسود السوائل فى نظرية الأوانى المستطرقة، فينسكب الفكر الليبرالى الغربى الذى هو الأعلى ليسود لدى الشعوب ذات الفكر الأدنى وهذا فى حد ذاته تصور عنصرى غير مقبول، متجاهلين ومتناسين عن عمد أن الغرب بات مأزوما منقسما على بعضه، ومن أبرز مظاهر ذلك التقطب غير المسبوق فى الولايات المتحدة بين أنصار الحزب الديمقراطى وأنصار الحزب الجمهورى والظهور القوى لليمين المتطرف واليسار المتطرف فى فرنسا.
إن مشكلة الليبرالين أنهم يتمسكون ويدافعون عن حق الآخر فى التعبير عن فكرهم وعقيدتهم دون أن يحددوا عقيدتهم، ولا يمكن أن تكون العقيدة هى فقط الاستماع إلى الغير.
يضاف إلى ذلك أنه مع الزمن ظهرت شقوق كبيرة فى الليبرالية التى دافعت عند نشأتها عن حقوق أساسية للإنسان مثل، الحرية والديمقراطية وحقوق المرأة وحقوق العمال. فلما تحقق ذلك بدأ الفكر الليبرالى يتمدد بشكل خبيث سرطانى مع ضغوط لإجبار شعوب العالم ذات التقاليد الراسخة لقبوله. وتحولت الليبرالية إلى شوفينية متعصبة تهاجم بضراوة من لا يقبل فكرها، وتعمل على كبح وتشويه وتجريح من يعارض، وصارت بمثابة محكمة تفتيش على الجميع أن يثبتوا لها ليبراليتهم.
فصار مطلوب منا أن نحى ونصفق لوزير فى أقوى دولة فى العالم يقدم زوجه إلى الحاضرين فى حفل يحضره رئيس الدولة، ومطلوب منا أن نصفق لمن يجاهر بإلحاده ويهاجم ثوابت الدين وأن نهجر ديننا لصالح بدعة الإبراهيمية، مطلوب منا أن نقبل العرى والمجون فى وقت تمنع فيه فرنسا التلميذات المسلمات من التحجب. مطلوب منا أن ننبذ الوطنية لصالح العولمة، مطلوب منا أن نذرف الدمع على شعب أوكرانيا الذى يتعرض للقصف الروسى ولا تخرج منا زفرة ألم على شعب فلسطين وشعب سوريا وشعب لبنان الذين يتعرضون للقصف من إسرائيل. مطلوب منا أن نحنى رءوسنا إجلالا لضحايا المحرقة ونقيم لهم نصبا فى بلادنا ونقبل إنكارهم للنكبة وسجنهم لروجيه جارودى لأنه راجع أعداد ضحايا المحرقة، مطلوب منا أن نعاقب الرياضى الذى يرفض منازلة رياضى إسرائيلى بدعوى أنه لا سياسة فى الرياضة ونقبل مقاطعة روسيا رياضيا ومقاطعة أولمبياد موسكو عام 1980 بسبب غزوها أفغانستان التى غزتها الولايات المتحدة لاحقا ولم يقاطعها أحد.
• • •
إن ما يهمنى أخيرا هو حماية مصر من السموم الليبرالية التى يقذفها منجنيق الغرب الذى يتخطى الحدود بجهازه الإعلامى وفضائياته ولعلى أتساءل هنا عن سبب خلو مصر من تيار محافظ قوى يتصدى لسموم تطرح باسم الليبرالية. مصر التى يمتد تاريخها سبعة آلاف عام لديها ما تحافظ عليه، مصر التى مر بها أنبياء الله إبراهيم ويوسف وموسى. مصر التى احتضنت أول كنيسة فى العالم وأقدم أديرة يعبد فيها الله، ومصر التى تحتضن الأزهر أقدم جامعة إسلامية فى التاريخ لا يمكن أن تقبل الإلحاد والفجور.
مصر التى كانت قبلة المشرق بتقاليدها المحترمة واحتشامها غير المغالى فيه ووسطيتها التى نشرتها من خلال إبداعها الفنى والإعلامى لن تقبل أن ينكر منتسب لإعلامها القيم والتقاليد المصرية.
المعاول تدق الأبواب والأسوار فليستيقظ الفارس المحافظ ويتلقى ضربات المعاول بدرعه اللامع ليحفظ مصر من الرجعية المتشنجة ومن الفجور المتخفى بلباس الليبرالية.