تواعدت مع صديق على اللقاء بكافيه فى أحد المولات الشهيرة، ولما وصلت قبل الموعد انتهزت الفرصة متجولا فى أرجائه ومشاهدة متاجره والبضائع التى يعرضها. دخلت محلا للأحذية وأعجبنى حذاء كاوتش أبيضا كالذى نلعب به التنس أو نمشى به فى التراك. سألت البائع فرد علىّ الرد الصاعق الذى كاد يسقطنى بالضربة القاضية! السعر عشرة آلاف جنيه! لما ظهر الهلع على وجهى أثار الفتى إعجابى بحنكة كرجل مبيعات ماهر وراح يؤكد لى أن هذا الحذاء يستحق كل مليم يدفع لاقتنائه، فهو ماركة وترند ورمز للشياكة والمكانة وأن الشباب الشيك يرتديه على بدلة السهرة، والعرائس يلبسونه على فساتين الفرح مما يتيح لهن الرقص مع الصديقات بعد الزفة.
بعد أن تيقن البائع الشاب من عدم قدرته على إقناعى بشراء الحذاء بدأت نظراته نحوى تتحول إلى نظرة رثاء لهذا العجوز الذى ما زال يعيش فى زمن حذاء باتا الذى كان يباع بجنيه واحد ويرفض أن يواكب الزمن ويتطور معه. خرجت من المتجر وتوجهت إلى المقهى لأنتظر صديقى وطلبت قدحا من الشاى، ولم أتمالك نفسى من التساؤل وأنا أشربه هل يمكن أن تتناسب قيمة الحذاء مع سعره؟! وسرح خاطرى إلى حدث آخر لعله يفصح عن قيمة الحذاء بعيدا كل البعد عن سعره.. وقع الحدث فى عام 1941 عندما طرح حسين سرى باشا رئيس وزراء مصر فى البرلمان «مشروع مقاومة الحفاء»، وتم جمع التبرعات من أجل صناعة حذاء رخيص أطلق عليه اسم «الزنوبة» وهى تسمية سبقت مسمى الشبشب البلاستيكى الخفيف الحديث. تبنى عدد من الوطنيين المشروع وكان منهم عبدالخالق حسونة باشا الذى كان رئيسا للجنة التنفيذية للمشروع بعد أن أدركوا أن كرامة الإنسان لا تتحقق بطربوش على الرأس بينما الأقدام حافية، وأن عورة القدم العارى أفدح كثيرا من عورة الرأس المكشوف.
كانت المرة الثانية التى أصدم فيها بالفرق بين السعر والقيمة عندما ذهبت لأحجز تذاكر طيران لزيارة ابنى الذى يعمل فى سفارتنا فى تركيا، فتعجبت من الزيادة الهائلة فى السعر منذ سفرى الأخير بالطائرة، وعندها تذكرت الصورة الفوتوغرافية التى التقطها المصور الصحفى الهولندى Hubert Van Ec الذى كان يغطى حرب فيتنام لصالح وكالة يونايتد برس الأمريكية. التقطت الصورة يوم 25 أبريل 1975، وهو اليوم السابق لدخول قوات فيتنام الشمالية سايجون وانسحاب الولايات المتحدة مهزومة مدحورة من فيتنام. الصورة لعشرات يتدافعون على سطح مبنى لركوب هليكوبتر أمريكية، ذكر وقتها أن المبنى هو السفارة الأمريكية فى سايجون ولكن بعد سنوات ورفع الرقابة والحظر اتضح أن المبنى هو أحد البيوت الآمنة التى اتخذتها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA لتجمع عملاءها وحلفاءها حتى لا يقعوا فى قبضة الشماليين، ولم تكف الهليكوبتر سوى عدد قليل من المتزاحمين وبقى الآخرون ينتظرون فى وجل مصيرهم المحتوم. تساءلت عندما راجعت هذه الصورة عن قيمة مكان على الهليكوبتر والسعر الذى كان سيدفعه من كان سيفر إلى الأمان عليها، وهان علىّ السعر الذى دفعته فى تذكرة الطائرة.
• • •
لعل أبلغ تصوير للقيمة كانت صرخة الملك الإنجليزى ريتشارد الثالث فى معركة Bosworth عام 1485 بعد أن قتل جواده، فهتف مملكتى مقابل جواد My kingdom for a horse وهى الجملة التى خلدها شكسبير بمسرحية باسم الملك عندما عرض الملك مملكته مقابل جواد يواجه به فرسان العدو وهم منقضون عليه. لعل أكثر المفارقات بين القيمة والسعر جاءت فى الفيلم الأمريكى indecent proposal الذى وزعته شركة باراماونت الأمريكية عام 1993 الذى أخرجه أدريان لين وقام ببطولته النجمان روبرت ردفورد وديمى مور ويدور حول رجل وزوجته الجميلة يقضيان إجازة فى لاس فيجاس وأثناء تواجدهما فى ملهى يتقدم منهما مليونير شاب وبمنتهى الوقاحة يعرض عليهما أن يقضى ليلة مع الزوجة الجميلة مقابل مليون دولار، ويجد الزوجان فى هذا العرض فرصة العمر ويقبلان. سعر مرتفع لكن هل يعبر عن قيمة؟! إنه يعبر عن انحطاط وقيمة فتاة مكافحة تقبل زواج شاب مكافح مثلها بمهر قدره 25 قرشا فى وجود أهلها السعداء والفخورين بها قيمتها أعلى منها بملايين المرات.
فى كثير من الأحيان هناك علاقة عكسية بين القيمة والسعر، وعادة ما يؤدى تسعير الأشياء وبخاصة القيم والمبادئ إلى فقدانها قيمتها، كما قال الأديب الأمريكى Ezra Pound أن المعبد يظل مقدسا طالما لم يعرض للبيع. إزرا باوند كان من أبرز أدباء وشعراء الولايات المتحدة قبل الحرب العالمية الثانية، وتأثر به العديد من أدباء وشعراء الغرب مثل اليوت وهمينجواى وبيتى.
وطبقا لمقولة إزرا باوند تكون الأوطان أقدس المعابد ذات القيمة ولا سعر لها، ولو راجعت التاريخ نجد أن فرنسا باعت فى عام 1803 مقاطعة لويزيانا للولايات المتحدة لتمويل الحروب النابليونية ومساحتها 2.1 مليون كيلومتر مربع، أى أكثر من ثلاثة أضعاف مساحة فرنسا ذاتها لأنها اعتبرتها عقارا جلبه المغامرون وليست جزءا من التراب الفرنسى، وقبضت ثمنها 80 مليون فرنك وهو سعر زهيد جدا لكنها دخلت ثلاثة حروب؛ اثنتين منهما عالميتين من أجل استرداد إقليم الألزاس واللورين التى لا تتجاوز مساحتها 14.500 كيلومتر مربع وقدرت قيمتها بدماء جنودها. وعلى نفس النسق، باعت روسيا ألاسكا التى تبلغ مساحتها 1.7 مليون كيلومتر مربع للولايات المتحدة فى عام 1867 لأنها تشعر أنها كانت مشروعا عقاريا استثماريا وليست جزءا من تراب الوطن. وهى اليوم تدفع العالم تجاه هاوية حرب عالمية نووية بسبب أوكرانيا التى رغم تنازلها عنها فإنها تشعر أنها جزء من الوطن.
• • •
فرق كبير بين السعر والقيمة لكننا للأسف نعيش فى زمن استهلاكى، طفا فيه السعر على القيمة بسبب النشاط الخبيث لشركات الدعاية والإعلان والتسويق والعلاقات العامة، التى تعمل من خلال شبكة عنكبوتية هائلة وتوظف أكبر علماء النفس والاجتماع والإعلام، وباتت تسيطر على وسائل الإعلام عن طريق الإعلانات المدفوعة وقامت من خلال ذلك بعملية غسيل مخ جماعى نجحت من خلالها فى تكريس مفهوم أن قيمة الإنسان تقاس بثمن ما يستهلكه، وصار التباهى والتفاخر هو الدافع الأقوى للشخص المستهلك، فلم نعد نلبس لستر أجسامنا بل صرنا نلبس لنتباهى ونتفاخر حتى بتنا نكاد نترك بطاقة السعر على ملابسنا، وإن نزعناها نستعيض عنها بشعارات الماركات الغالية. صرنا نأكل ونشرب لنتباهى لا لنقيم أودنا ونطفئ ظمأنا، حتى حديثنا صار مجالا لتفاخرنا وتباهينا بنطقنا بألفاظ أعجمية للتنويه أننا درسنا فى مدارس دولية وجامعات أجنبية وأننا من أبناء الصفوة.
وبعد أن كدت أن انتهى من كتابة مقالى هذا اكتشفت أنى تخلفت كثيرا عن متابعة الأسعار، بعد أن شاهدت مشهدا على وسائل التواصل الاجتماعى لمجموعة من الفتيات على أحد السواحل يتفاخرن بحذاء قيمته 24 ألف جنيه! قمة فى السفه والتفاهة والسطحية.. وهذا ما فعلناه بالأجيال الجديدة.
ليتنا ننتبه ونغرس فى نفوس أبنائنا وبناتنا ونوعيهم بالفرق بين السعر والقيمة، وأن هناك أمورا خارج التسعيرة وغير معروضة فى السوق.