بعد مرور ما يزيد على ثلاث سنوات ونصف السنة على ما أطلق عليه «الربيع العربى» الذى ببساطة تمحور حول تطلعات الشعوب العربية للمزيد من الحريات لأبنائها. يشهد العالم اليوم لحظة غريبة من تاريخنا، لحظة لا يمكن معها تصنيف ما يحدث حتى بالفوضى واللامعقول مع ظهور ما يطلق عليه تنظيم داعش وما ذكر عن تأسيسه لخلافة إسلامية، وتأثير ذلك كله على تبخر أى آمال فى ديمقراطية عربية فى المستقبل المنظور.
•••
قبل ثلاث سنوات ونصف السنة بدأت الشعوب العربية فى التعبير عن رفضها لنظم الاستبداد والقمع التى حكمتهم على مدى العقود الأخيرة، ولم يترك الاستبداد العرب إلا أمة مهزومة، محتلة أراضيها، أمة فقيرة يهاجر خيرة شبابها، وأمة تعتمد على العالم فى طعامها وملبسها ومستلزمات حياتها اليومية. أمة لم تضف للبشرية خلال العقود الأخيرة ما يستحق الذكر فى أى من المجالات المعرفية والعلمية الحديثة.
توقع الكثيرون مع بدء ربيع العرب فى تونس ومن بعده مصر قبل ثلاثة أعوام أن يتخلص المواطن العربى من الاستبداد، وحلم الكثيرون بجمهوريات جديدة لا يعرف فيها المواطن الخوف من السلطة، ولا تجرؤ السلطة فيها على المساس بالحقوق السياسية والحريات الأساسية، وعلى رأسها حرية التعبير والتظاهر للمواطنين. حلم الكثيرون بإصلاح هيكلى للأجهزة الأمنية لتكون فى خدمة الشعب بدلا من خدمة السلطة وخدمة مصالحهم. وتوقع الكثيرون أن تكون لقيم العيش والحرية والعدالة الاجتماعية دور أكبر فى مستقبل الشعوب العربية. إلا أن هذه التوقعات والآمال تبخرت مع عودة قوية لمظاهر الاستبداد التقليدية مصاحبة بمعارضة واضحة لأى محاولات تغيير وإصلاح ضرورية. ودعم ظهور وتمدد داعش لعودة التنظير السياسى للمبررات القديمة الداعمة للاستبداد على شاكلة ضرورة «الحفاظ على هيبة الدولة» ولا صوت يعلو فوق صوت «الحرب على الإرهاب». ويأتى ذلك بعدما اعتقد البعض تخلص الشعوب العربية من ثنائية إما أن نحكم ونقمع، وإما نعيش فى خوف وفوضى، وهى الثنائية التى فرضها عليهم النظم الحاكمة لعقود عن طريق زرعها لعنصر الخوف Fear Factor فى نفوس الشعوب العربية. واعتقدت شعوب العرب أنها تخلصت من ثنائية الاستبداد الكلاسيكية (نحن أو الفوضى)، إلا أن حلم العرب فى ديمقراطية حقيقية يبتعد يوما بعد يوم حتى من قبل ظهور تنظيم داعش على الخريطة العربية مؤخرا. وبظهور داعش (الذى لم يقنعنى بعد أى من التفسيرات المتعلقة بنشأته وطبيعته وتحركاته وقوته) تتبخر أى آمال حقيقية فى تغيرات ديمقراطية فى المنطقة العربية. قضية الحريات وحقوق الإنسان والانفتاح السياسى توارت تماما فى العراق وسوريا (مهد داعش). لم يعد أحد يتحدث عن ضرورة التأسيس لنظام سياسى قائم على أسس سامية مثل الانتخابات الحرة المتكررة، أو شيوع مبدأ سيادة القانون، والمساواة بين المواطنين بغض النظر عن الجنس أو الدين أو الخلفية الاجتماعية. أما خارج العراق وسوريا فتستغل النظم الحاكمة داعش لتبرير بقاء الأوضاع كما هى عليه، أو حتى التمادى فى ممارسات القمع.
•••
جاءت أخبار الأسبوع الماضى المتعلقة بالمنطقة العربية لتركز على الجهود التى تقودها الولايات المتحدة لمواجهة تمدد داعش داخل العراق وسوريا، وتنصب جهود واشنطن على حماية الأردن ولبنان، والعمل على إبعاد نفوذ داعش عن فلسطين ومصر وبقية دول شمال أفريقيا ودويلات الخليج النفطية.
وطبقا لتقارير إعلامية أمريكية تعتقد وزارة الدفاع الأمريكية أن القضاء على داعش سيستغرق ثلاث سنوات على أفضل تقدير. وتخطط واشنطن لاستراتيجية من تعمل على خطة من ثلاث مراحل، وأن المرحلة الأولى بدأت بشن غارات جوية، وتتمثل المرحلة الثانية فى تكثيف جهود تدريب وإرشاد الجيش العراقى والمقاتلين الأكراد أو دعمهم بالسلاح، وأما المرحلة الثالثة فتهدف إلى تدمير تنظيم الدولة داخل سوريا. كما أشارت وزارة الخارجية الأمريكية إلى أن أكثر من أربعين دولة انضمت إلى التحالف ضد تنظيم الدولة الإسلامية، كذلك اجتمع وزير الخارجية جون كيرى بعدد من نظرائه العرب فى مدينة جدة السعودية لمواصلة جهود بناء تحالف دولى لمواجهة داعش.
وتعد هذه الأخبار سارة جدد للمستبدين من الحكام العرب وأجهزتهم الأمنية، فهناك اليوم معركة كبرى تشارك فيها أهم دول العالم، فلم يعد أحد يهتم اليوم بقضايا الديمقراطية والحريات العربية، فهى بالنسبة لهم ليست فى سلم الأولويات على الإطلاق. إلا أن الواقع يؤكد أن الاستبداد، وبغض النظر عن نوع الأسس القائم عليها، سواء كانت دينية أو طبقية او عسكرية أو عرقية، لم ولن يوفر مناخا داعما للاستقرار. يرى بعض المبررين للقمع والاستبداد أن ثورات الربيع العربى ساهمت فى ظهور تنظيمات إرهابية جديدة، إلا أن الواقع يؤكد أن ظهور الإرهاب الداعشى الجديد يرتبط بعمق ووحشية الممارسات القمعية فى كل من سوريا والعراق خلال العقود الأخيرة، أما الإرهاب داخل دول أخرى مثل مصر وتونس فيرتبط فى جزء مهم منه بالإحباط من الواقع السياسى أو الاجتماعى، وفشل الدول فى التأسيس لتنظيمات سياسية ومجتمعية ودينية تتفهم متطلبات القرن الحادى والعشرين.
•••
ورغم أن الخريطة الجيو ــ إستراتيجية للدول العربية لا تدفع إلا لمزيد من الإحباط، فإنه ومن المؤكد أن السلاح الأقوى فى مواجهة التنظيمات والميليشيات الراديكالية المسلحة هو المزيد من الحريات وإعمال سيادة القانون، وتبنى مسار ديمقراطى حقيقى، وعلينا جميعا أن نرفض دعوات عودة الاستبداد من جديد وأن نختار التأسيس لدولة مصرية ودول عربية ديمقراطية حديثة.. دول لا يوجد بها أى استبداد، لا دينى ولا شرطى ولا طبقى ولا عسكرى، ولا أى قمع من أى نوع، ولا يظلم ولا يهان فيها أى مواطن، ولا يخشى فيها المواطن الدولة. وتلك الدول هى التى يصعب فيها نشوء وتطور الإرهاب بكل أشكاله.