فى إجازة الصيف المدرسية تقف زبيدة فى أحد محلات البقالة المتواضعة فى برج رشيد لتبيع أكياس البطاطس المقلية أو البسكوت المغلف أو المياه المعبأه فى زجاجات بلاستيكية أو غيرها مما هو موضوع على الرفوف المتواضعة فى محل أبيها المسن. وتتبادل مع أختها الأصغر العمل فى المحل لأنها تذهب للعمل مع أبيها عندما يحتاجها فى ورشته التى يصنع فيها الأقفاص من جريد النخل المجفف. وتمضى معظم أيام الصيف وهى لا تكاد تملك وقتا للعب واللهو مع صديقاتها.
وقد أحست بنت الرابعة عشرة بصعوبة الحياة التى يعيشونها مع بداية دخولها للمدرسة ونما وعيها سنة بعد سنة للمشقة التى يتكبدها أبواها لكى يوفروا لها ولإخوتها حاجاتهم من الطعام والملابس، ويمتلئ رأسها الصغير بذكريات مؤلمة للأيام التى يحل فيها بأحدهم مرض طارئ يتطلب أجر طبيب وشراء أدوية قد لايكون فى متناولهم. وأدركت منذ زمن قريب كيف يكافح أخوها الأكبر فى إحدى بلاد الخليج لكى يتمكن من ادخار بعض المال كى يستطيع الزواج من جارتهم التى قام بخطبتها من سنة وكيف أنه يرسل لهم شهريا مبلغا من المال يكاد هو ما يبقيهم فى حال مستورة. وكلما عاد أخاها فى زيارة قصيرة يحكى عن أحوال أصدقائه وزملائه الذين سافروا من القرية ومن قرى أخرى مجاورة سعيا لادخار قدر من المال يساعدوا به أهلهم ويتمكنوا من بناء بيت صغير يصلح بالكاد لعائلتهم المستقبلية. و لا تنسى ابدا انها لمحت دموعا فى عيني أخيها لما كان يحكى عن زميله الذى كان من ضحايا المركب المشئوم التى انطلقت من برج رشيد فى خريف العام السادس عشر وكيف هزته تلك الحادثة وزملاؤه ودفعتهم دفعا للبحث عن مكان يستطيعون كسب العيش فيه. ولا يزال أخاها الأصغر فى منتصف دراسته الجامعية فى الاسكندرية و هو يعود مع انتصاف كل صيف ليبدأ فى العمل كصياد أو سائق توك توك ليتمكن من ادخار بعضا من المال كى يستعين به على مصروفات جامعته.
تسمع زبيدة الكثير من الأحاديث عن تدهور الحياة فى قريتها فى العقود الاخيرة حتى قبل أن تولد ولكنها تسمع أيضا أن وتيرة هذا التدهور آخذة فى الازدياد فى السنوات الأخيرة. وتتمنى زبيدة لو تمتلك تليفونا محمولا كما بعض صديقاتها فى المدرسة. وفى آخر السنة الدراسية الماضية تتذكر زبيدة كيف حدثتهم مدرستهم عن استضافة مصر لمؤتمر كبير للغاية يجمع كل دول العالم فى نوفمبر القادم فى مدينة شرم الشيخ فى جنوب سيناء. وكيف أن مصر تتطلع للاستفادة من هذا المؤتمر فى دعم السياحة وتقديم نفسها للعالم بصفتها من المهتمين الريادين بالبيئة. وفى وسط حديثها توقفت المدرسة كى تخبرهم أن المكان الذى يعشن فيه من أهم الأماكن فى العالم لموضوع المؤتمر. وتتذكر تعجبها هى وزميلاتها وتعجبهن من ذلك خاصة وأن قريتهن تقع فى مكان بعيد حتى أنه يبدوا من قلة زائريه وكثرة مشاكله أنه مكان لم يسمع به أحد؟
سألتهم المعلمة أمل وقتها هل تعرفون ما هو التغير المناخى وهل سمعتن عنه من قبل؟ وبعد صمت قصير ارتفع صوت سهر وهى التلميذة الأكثر قراءة واجتهادا فى فصلهم فى لتقول إنها قرأت منشورا فى الفيس بوك يشرح كيف أن المناخ يتغير بفعل تدخل البشر فى الطبيعة، وأن هذا التغير سيكون له نتائج سلبية على الجميع وأننا يجب أن نقوم بالعديد من الإصلاحات قبل فوات الأوان لكى ننقذ الأرض التى نعيش عليها والتى بدونها لن نستطيع أن ننقذ أنفسنا. ورفعت نجاح يدها لتقول ولكننا لا نقوم بشئ ضار للأرض فى برج رشيد لأنه فى كل الأحوال ليس هناك صناعة ولا أعمال أخرى ضارة وبالتالى لماذا نقلق؟. ردت المدرسة على نجاح بقولها أنها كانت تتمنى لو كان الوضع بهذه الصورة ولكن للأسف برغم أن سكان برج رشيد وربما البحيرة وأيضا باقى محافظات مصر ليسوا هم الأكثر مسئولية عن تغير المناخ إلا أننا كما تقول الدراسات سنكون الأكثر تأثرا للأسف. ثم أردفت أنها قرأت فى إحدى الصحف اليومية أنه فى حالة ارتفاع منسوب سطح البحر فإن مدخل النهر الحالى للبحر سيتراجع حتى يبلغ برج مغيزل القرية المقابلة لهم.
لطالما تمنت زبيدة أن تكون مثل مدرستها أمل التى أرشدتها وعلمتها الكثير عن الحياة وساندتها لكى تتمكن من تحصيل دروسها بجدية ومنذ حصلت على الشهادة الإعدادية فى يونيو الماضى فهى تحلم بالمدرسة الثانوية الواقعة فى مدينة رشيد والتى ستضطر لركوب القطار يوميا للالتحاق بها. وبالرغم من أنها تعرف أنها خطوتها الأولى نحو الجامعة لكن القلق يزورها كل حين لأنها تعرف مدى صعوبة موافقة عائلتها على استمرار دراستها فى الجامعة.
كلما فكرت زبيدة أكثر فيما سمعته عن مشكلة التغير المناخى فى رشيد وتأثيرها الكبير على مستقبلها هى وأسرتها التى تتمنى تكوينها شعرت بقلل كبير وخوف من هذا المستقبل. وحينما تذهب زبيدة للتمشية على شاطئ النيل القريب فى وقت الصباح الباكر تزدحم الأفكار فى رأسها الصغير فهل ستستطيع أن تكمل دراستها الثانوية بتفوق لتلتحق بعدها بكلية التربية بجامعة الاسكندرية لكى تتخرج منها وتعمل مدرسة مثل مثلها الأعلى الأستاذة أمل أم أن أهلها لن يوافقوا؟ هل يمكن أن يساندها إخوتها أم لن يستطيعوا وهل سيتمكن خالها أن يقنع أباها كما وعدها أم لن يفعل؟ وأحيانا عندما تكثر من التأمل فى النهر وتشعر بنسمات الهواء الباردة تتسائل هل يا ترى سيتركها أهلها لتحقق أحلامها وتعود لأرضها لتساعد صغار قريتها. وتتكلم مع النهر أحيانا وتسأله هل ستعود فى يوم قريب أنت أيضا كما كنت لزمن طويل بين العذوبة والملوحة أم أنك مثلى ما تتمناه لنفسك ليس بيدك وحدك؟