لا ينطوى توصيف اللحظة الراهنة فى الوطن العربى بأنها نكبة ثالثة، ولا توصيف ما أعقب نكسة 1967 بأنه نكبة ثانية، على أى مبالغة، ويكفى للتدليل على صحة ذلك تذكر حالة العرب وأهداف الكيان الصهيونى وإنجازاته، وكذلك الموقف الدولى فى كل من هذه اللحظات المفصلية فى تاريخ العرب المعاصر.
كان هدف الحكومات العربية السبع التى خاضت الحرب العربية الإسرائيلية الأولى فى مايو 1948 هو الحيلولة دون قيام دولة إسرائيل على ذلك الجزء من أراضى فلسطين الذى منحه لها قرار التقسيم 181 الذى أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة فى 1947، وكان هدف الميليشيات المسلحة اليهودية هو وقف هذا العمل العسكرى العربى، وانتهى الأمر بهزيمة الجيوش العربية وقيام دولة إسرائيل ليس فقط على الأراضى التى منحها لها قرار التقسيم، ولكن بالاستيلاء على أرض جديدة أثناء الحرب وخلال الهدنة التى أعقبتها، وقبلت الدول العربية المحيطة بفلسطين بالهدنة مع إسرائيل، ولكنها حافظت على مواقفها الرافضة لوجود إسرائيل وامتنعت عن الدخول فى أى علاقات معها، بينما ضم الأردن الضفة الغربية إلى أراضيه، وأقامت الحكومة المصرية إدارة عسكرية فى قطاع غزة.
جرت الحرب العربية الإسرائيلية الأولى فى بداية الحرب الباردة، ومع أن الاتحاد السوفيتى كان الدولة الثانية التى اعترفت بإسرائيل بعد حكومة الولايات المتحدة، إلا أن تطورات الحرب الباردة بعد ذلك جعلت الاتحاد السوفيتى منذ منتصف خمسينيات القرن الماضى يقف مع الدول العربية ويساعد بعض المحيطة منها بإسرائيل بالسلاح تمكينا لها من مواجهة خطر إسرائيل على حدودها. وبينما كان هدف الدول العربية الثلاث التى واجهت إسرائيل فى 1967 ردع إسرائيل عن القيام بعمل عسكرى ضد سوريا، إلا أن هذه الحرب العربية الإسرائيلية الثانية انتهت بفقدان الدول الثلاث أقساما من أراضيها باحتلال إسرائيل لشبه جزيرة سيناء فى مصر، ومرتفعات الجولان فى سوريا، وكل الضفة الغربية بما فيها القدس والتى كانت كلها تحت الإدارة الأردنية.
• • •
تغيرت أهداف الدول العربية بعد هذه الهزيمة التى سميت بنكسة فأصبحت تصفية آثار العدوان الإسرائيلى باستعادة الأراضى التى فقدتها فى تلك الحرب، وهو ما كان يعنى أنها تقبل إسرائيل فى الحدود السابقة على تلك الحرب، وكان ذلك تنازلا منها عن هدف استعادة كل فلسطين العربية كما كانت قبل هجرة اليهود الأوروبيين لها، وتأكد ذلك بقبول كل من مصر والأردن قرار مجلس الأمن 242 فى 1967 الذى دعا إلى جلاء إسرائيل عن أراض (الأراضي) محتلة وحق الدول فى أن تعيش فى سلام داخل حدود آمنة ومعترف بها، ومع استعادة كل من مصر وسوريا جانبا من الأراضى التى احتلتها إسرائيل فى سيناء ومرتفعات الجولان بموجب اتفاقات وقف اشتباك وقعتها حكومتا البلدين فى السنوات الثلاث التى أعقبت حرب أكتوبر 1973.
حدث ذلك فى إطار الحرب الباردة التى واصل فيها الاتحاد السوفيتى تأييد الدول العربية وحق الشعب الفلسطينى فى تقرير المصير. إلا أن هذه النكسة قد تحولت إلى نكبة بتصور قيادة الرئيس السادات فى مصر أن النزاع مع إسرائيل هو خلاف على الحدود وأن جذوره نفسية أكثر منها واقعية، ولذلك يصبح السلام مع إسرائيل والتطبيع الكامل للعلاقات معها هو السبيل للتغلب على هذه «العقدة النفسية»، ومن ثم ينفتح الباب أمام حل كل مشاكل إسرائيل مع العرب بمن فيهم الجانب الفلسطينى. ومع أن هذا الطرح الساداتى لقى معارضة من معظم الدول العربية فى 1979 إلا أنها انساقت بعد ذلك وراء هذا التصور لأسباب متعددة، وكانت كل من منظمة التحرير الفلسطينية هى أول من سار على هذا الطريق فى 1993، وتلاها الأردن فى 1994، ثم انضمت لهذه المسيرة كل من دولة الإمارات والبحرين والسودان والمغرب فى سنة ٢٠٢٠ خلال سنوات حكم دونالد ترامب، وبدأت دول عربية أخرى التمهيد لمشاركتها فى هذه المسيرة وخصوصا المملكة العربية السعودية وقطر.
قبول هذا التصور لحقيقة الخلاف مع إسرائيل هو الذى دفع الحكومات العربية لتقليل دعمها للنضال الفلسطينى بل وممارستها الضغوط على السلطة الفلسطينية لتوقف أى مقاومة مسلحة لإسرائيل فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، حتى مع وضوح رؤية إسرائيل لهذا السلام أنه يوفر السياق المناسب لتعميق احتلالها للأراضى الفلسطينية بنشر المستوطنات وحصار غزة مطمئنة إلى أن الجانب الفلسطينى لن يلقى أى مساعدة فعالة من جانب الحكومات العربية التى ارتضت خروجها من أى مواجهة مسلحة مع إسرائيل، سواء كانت هذه المواجهة مباشرة أو غير مباشرة بدعمها النضال المسلح الفلسطينى.
• • •
فى ظل هذه الأوضاع من القبول العام بين الحكومات العربية للتطبيع مع إسرائيل جاء طوفان الأقصى والذى اتخذت المبادرة فيه حركة حماس فى غزة وساندها فاعلون من غير الدول فى لبنان واليمن والعراق. وكانت تلك هى أطول حرب تخوضها إسرائيل استمرت حتى كتابة هذه السطور 435 يوما أى خمس فصول بينما لم تتجاوز أى حرب نظامية بين إسرائيل والجيوش العربية عدة أسابيع قليلة، وطالت فيها أسلحة هذه الحركات العمق الإسرائيلى وألزمت ملايين من الإسرائيليين والإسرائيليات البقاء فى المخابئ ساعات طويلة وأياما متعددة.
لكن التفوق العلمى والتكنولوجى والعسكرى لإسرائيل والمساندة المطلقة التى تلقتها من جانب الإدارة الأمريكية مكنها من تجنب ضغوط الرأى العام العالمى، ورفض قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة بوقف عدوانها والأحكام والدعاوى المدينة لها من كل من محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، ومكن ذلك القيادة الإسرائيلية ــ ويساندها الرأى العام الإسرائيلى ــ من الرد على سقوط نظرية الأمن الإسرائيلى فى طوفان الأقصى، وكشف وجهها الحقيقى العنصرى والاستعمارى والساعى للسيطرة على الدول العربية بتفتيتها إلى كيانات طائفية، بممارسة الإبادة الجماعية فى غزة، والسعى لضم الضفة الغربية وعدم الاعتراف بأى سلطة فلسطينية، وادعاء الحق فى التدخل العسكرى فى جنوب لبنان متى شعرت بخطر على أمنها، والتغاضى عن اتفاق فك الاشتباك مع الحكومة السورية واحتلال المنطقة العازلة فى الجولان والتوسع بعد ذلك داخل الراضى السورية، ثم بإعلان وزير خارجية إسرائيل عن عدم واقعية بقاء سوريا دولة موحدة، فمن الأفضل فى رأيه أن تكون هناك دولة للدروز وأخرى للأكراد وثالثة للمسيحيين ورابعة للعلويين وخامسة للسنة. ويأتى ذلك فى سياق دولى يتسم بإدارة أمريكية قائمة أو قادمة لا تخفى تأييدها المطلق لإسرائيل وضعف القوى الدولية الأخرى التى كان يمكن أن تساند العرب، أو عزوفها عن ذلك فى الوقت الحاضر.
ليست هذه التصريحات مجرد تعبير عن النشوة بما تتصوره إسرائيل من انتصار على المقاومة الفلسطينية فى غزة وعلى حزب الله فى لبنان، وهزيمة كل محور المقاومة فى الوقت الحاضر ولكنها ترجمة أمينة لمخططات قديمة منشورة فى 1982 فى مجلة كيفونيم الصادرة عن الإدارة الإعلامية للمنظمة الصهيونية العالمية، لخصتها مقالة لأوديد ينون، وهو صحفى عمل قبل ذلك فى وزارة الخارجية الإسرائيلية، ودعا فيها إلى ضرورة سعى إسرائيل لتشجيع انقسام الدول العربية كلها إلى كيانات طائفية بما فى ذلك الدول العربية المستقرة مثل مصر والمملكة العربية السعودية.
لا ينبغى التقليل من أهمية هذه الكتابات، فقد بدأت الحركة الصهيونية بكتاب تيودور هرتزل عن الدولة اليهودية فى 1896. ويتصور أصحاب هذه التوجهات أن أمن إسرائيل يتحقق بإضعاف الدول العربية من خلال تقسيمها إلى كيانات طائفية متنازعة تتحارب فيما بينها ولا تملك لا تحقيق الاستقرار السياسى ولا توفير ظروف الحياة الكريمة لمواطنيها ومواطناتها، كما نرى دلائل على ذلك فى الخلافات بين أكراد العراق، والحرب التى مزقت دولة جنوب السودان بعد انفصالها عن السودان. لكن حتى يتحقق ذلك لا تتوقف إسرائيل عن السعى للحيلولة دون تقدم أى دولة عربية علميا أو تكنولوجيا أو عسكريا. عملاؤها هم وراء اغتيال العلماء العراقيين الذين انخرطوا فى برنامج الأبحاث النووية فى العراق والذى كان برنامجا سلميا، ويشاع أن حركة اغتيال لعلماء سوريين جرت فى الأيام الأخيرة، كما هاجمت الطائرات الإسرائيلية مراكز أبحاث سورية، واعترفت من قبل بتدمير مفاعل نووى عراقى.
ولا تسلم الدول التى تسعى لعلاقات تطبيع مع إسرائيل من ضغوط إسرائيلية لوقف تعزيز قدراتها العسكرية. الصحف الإسرائيلية حافلة بمقالات تدعى القلق من تطور القدرات العسكرية المصرية، وتعترض إسرائيل على إبرام معاهدة للسعودية مع الولايات المتحدة تساعد بمقتضاها واشنطن فى تطوير قدرات البحث العلمى فى الرياض فى الاستخدام السلمى للطاقة النووية.
لا تريد القيادة السياسية فى إسرائيل أن تحيطها دول مستقرة ومتقدمة تدخل معها فى علاقات سلام لا فى الوطن العربى ولا فى الشرق الأوسط، ومحاربتها للبرنامج النووى الإيرانى السلمى أمر معروف وموثق.
• • •
مازال يحدونا الأمل فى هذه اللحظات الخطيرة أن تدرك الحكومات العربية التهديد الذى تمثله إسرائيل على استقرارها وتقدمها، وهى تملك الأدوات للوقوف فى مواجهة هذه المخططات الإسرائيلية بدعم التضامن فيما بينها، والتوقف عن الصراع على الزعامة فى الوطن العربى، ومواجهة ضغوط الإدارة الأمريكية الجديدة من أجل توسيع علاقتها باسرائيل، وإذا كانت هذه الإدارة تتبع أسلوب الصفقات، فلتكن الصفقة هى تسليم إسرائيل بحق الشعب الفلسطينى فى إقامة دولته وتوقف أجهزتها عن السعى لتفتيت الدول العربية وإضعافها، وأن تتوقى هذه الحكومات مثل هذا الخطر بأن تقيم السلام مع مواطنيها ومواطناتها، فتقر بأن لهم ولهن حقوقا مدنية وسياسية مشروعة، وتستخلص الدروس الصحيحة مما جرى لنظام بشار الأسد فى سوريا.
وإذا كانت الحكومات العربية ستتأخر فى إدراك هذه الحقائق، فستقع تلك المهمة على عاتق النخبة المثقفة العربية للمساهمة فى الخروج من هذه النكبة الثالثة.