كنت فى طريقى لإحدى الجامعات الأمريكية لإلقاء محاضرة عن بعض ما أقوم به خاصة فيما يتعلق ببناء سرديات محلية للتحول المتجدد فى برج رشيد وميت رهينة والقصير. توقفت ليومين لزيارة أحد المعارض الدولية فى روتردام. يعقد «بينالى روتردام العمارة الدولى» كل عامين فى المدينة الهولندية وعلى خلاف «بينالى فينيسيا الدولى للعمارة» الذى يحدد أجنحة للدول لكى تقدم كل دولة تفاعلها مع الموضوع المطروح، فإن بينالى روتردام منذ بدأت زيارته عام ٢٠١٦ يركز على قضايا تتعلق أساسًا بالتحدى الوجودى الذى يواجه البشرية، وهو التغير المناخى وما يتعلق به باستخدام موارد الأرض الطبيعية.
أدهشنى العمق والإبداع الذى يتضمنه هذا المعرض على الدوام، وكيف يربط الاقتصاد واستخدام الموارد الطبيعية بالعمران، لكنى منذ أول حضور لى لاحظت ظهورًا خجولًا للغاية للتجارب من خارج أوروبا ونقلت ملاحظتى تلك فى أثناء نقاش على هامش المعرض، لأنى رأيت آنذاك أن هذا يجعل من المعرض حدثًا إقليميًا وليس دوليًا. لكن للأسف لم يتحسن هذا الوضع فى البينالى الذى أقيم فى عام ٢٠١٨، وفى عام ٢٠٢٠ وعندما بدا أن المعرض آخذ فى الانفتاح على المناطق الأخرى من العالم، وكان أحد مشروعاتى البحثية عن برج رشيد قد قبل المشاركة وقبل إنهاء استعداداتنا للمشاركة بقليل، غيرت القيود التى فرضت والخاصة بجائحة كوفيد من هيكلية المعرض، واضطر المنظمون لتحويله إلى معرض إقليمى فعليًا سواء فى المشاركة أو الحضور.
هذا العام عُقد المعرض مرة أخرى بحضور دولى مفتوح، وكنت مهتما بحضوره لأن عنوانه «طيبعة الأمل» ومحتوياته لها علاقة كبيرة بما نحاول القيام به فى جامعة القاهرة. أقيم المعرض فى المكان الذى بدأ فيه البينالى أول مرة من عشرين عامًا، وهو مؤسسة العمارة الهولندية. وكانت هناك قاعة عرض رئيسية بارتفاع ثلاثة طوابق بالإضافة إلى قاعتين فرعيتين فى نفس المبنى وعرض آخر فى مبنى مجاور.
شمل العرض العديد من المشروعات سواء التى تمت أو المخطط لبنائها أو حتى الدراسات والأبحاث النقدية التى تظهر احتياجنا إلى التعامل بجدية وإبداع مع الطبيعة، ومكوناتها لكى نستطيع مواجهة التحدى الكبير للغاية أو ما يمكن تسميته الكارثة المناخية والتى لا يمكن فصلها عن كارثة التدهور فى التنوع الحيوى على الأرض. كانت هناك لوحات ملونة، ويصاحبها شرح أو تعليق يمكن سماعه من سماعات مرتبطة به، كما كانت هناك عينات من التربة الطبيعية التى يتم استخدامها فى إنتاج بلاطات للأرضيات، كما كان كانت هناك أرضيات مماثلة لتلك المسماة التراتزو، لكنها منتجة من مواد مستعملة مثل البلاستيك وغيرها والمنتج يبدو رائعًا. كانت هناك أيضًا فيديوهات يشرح فيها عدد من كبار المعماريين والباحثين الإشكالية الكبرى التى نواجهها، والتى فى جانب منها تدفع بعض الرأسماليين المستفيدين من عملية البناء إلى هدم مبانٍ وإعادة بنائها على شكل مشروعات كبرى ليزيدوا من أرباحهم، وكيف أن عملية الهدم تلك تعنى تعاظم الكارثة البيئية، لأنه كما أظهرت الأبحاث فنحن لسنا بحاجة حقيقة إلى كل المبانى التى يتم بناؤها (ربما نحتاج تعديلًا وتوفيقًا بعض القائم)، كما أن الهدم يعنى إطلاق كميات كبيرة من ثانى أكسيد الكربون فى الجو بالإضافة إلى هدر الموارد التى دخلت فى عملية البناء الأولى وخاصة المياه.
بالرغم من أن المعرض يبدو متخصصًا، ويهم شريحة من المعماريين والمشتغلين بالعمران فإن جدارات المنحدر الذى يربط الأدوار ببعضها كانت به بعض الملصقات الخاصة بفلسطين، وكانت تلك لفتة ليست عاطفية، لكنها واعية وتظهر كيف أن تحدياتنا واهتماماتنا مترابطة مهما كان مكاننا على هذه الأرض. ولأننى لا أستطيع أن أحيط بكل ما عرض فى هذا المعرض فأنا أشجع المهتمين بعمل الجولة الافتراضية المطروحة على الموقع الإكترونى الرئيسى للمعرض IABAR.nl.
بعد تلك الزيارة بيومين كنت فى الجامعة الأمريكية الواقعة على المحيط الأطلسى (فعلًا وليس مجازًا) والتقيت الطلاب، وعندما بدأت فى إلقاء المحاضرة التى أعددتها ارتجلت بداية عن هذا المعرض، وكيف أنه بالرغم من قيمته وأهمية معروضاته فإنه لم يعرض تقريبًا سوى أعمال أوروبية وغربية فى الغالب، وكأن المجتمعات التى تعيش فى الجنوب ليس لها اهتمام أو مساهمة ممكنة فى هذا النقاش الضرورى لبقاء كل المجتمعات التى تعيش على كوكبنا أو التى يجب بالتالى أن تشارك مجتمعة.
قلت للطالبات والطلبة وهن وهم يأتون من بلدان مختلفة من العالم أننى سأعرض بعضًا مما أعتقد أنه مساهمة فى مواجهة تحديات التغير المناخى وتدهور التنوع الطبيعى ليس فى مصر فقط، لكن أيضًا ما يمكن أن يكون مفيدًا لمجتمعات أخرى سواء فى الجنوب أو حتى فى الشمال. وبعد انتهاء المحاضرة سألنى الطلاب عدة أسئلة منها ما كان عن كيف ننقاش التغير المناخى مع تلك المجتمات التى يبدو أنها ليست فى مستوى التطور التى يؤهلها للانشغال بتلك القضية المركبة. كان ردى أننا حينما توجهنا مثلًا لبرج رشيد لم نبدأ بكلام عن التغير المناخى، لكننا تناولنا ما نعرف أنه الهم الأكبر لهم، وهو الصرف الصحى. بعد أن سعدوا بما نحاول القيام به شرحنا لهم كيف أن ما نحاول القيام به من معالجة لا مركزية للصرف الصحى باستخدام وسائل لا تضر بالبيئة مرتبط بإصلاح منظومة المياه والتى تأثرت وستتأثر أكثر بالتغير المناخى، وكانت النتيجة جيدة للغاية. نقوم بذلك لأننا ندرك أهمية أن يفهم المجتمع المحلى ما نقوم به وأن يدعمه لأنه دون ذلك لن تكون مشروعاتنا ناجحة أو قادرة على الاستمرار ثم الانتقال إلى مراحل تالية لنشرها ثم تعميمها.