يمكن القول أن حرب إسرائيل على قطاع غزة ــ منذ نحو عام ــ قضت على احتمال انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة، ورغم هذا فإن دول الشرق الأوسط تواجه حالة عميقة من عدم اليقين بشأن توجه السياسة الأمريكية بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة.
وجهة النظر العامة تقول إن سياسات المرشحيْن الرئاسيين تجاه الشرق الأوسط سوف تكون متباينة، لأن كلا منهما يختلف فى نظرته للعالم اختلافاً عميقاً، لكن مع مرور الوقت، ضيقت الأحداث الجارية من نطاق الخيارات المتاحة.
بشكل عام، هناك ثلاثة تحديات رئيسية فى المنطقة يواجهها من سيصل للبيت الأبيض، التحدى الأول هو التعامل مع إيران. التحديان الآخران هما الحرب فى غزة، والعلاقات الأمريكية مع دول الخليج.
• • •
بالنسبة للتحدى الأول، من المرجح أن تختبر إيران الرئيسة/ الرئيس الجديد للولايات المتحدة. فمنذ تراجعت إدارة ترامب عن الاتفاق النووى مع إيران فى 2018، أصبحت السياسة الإيرانية أكثر تحديا فى كثير من النواحى. زاد التخصيب النووى الإيرانى، وزاد وكلاء إيران الإقليميون (حماس، والحوثيين فى اليمن، وحزب الله فى لبنان، والعديد من الميليشيات العراقية) من العمليات ضد حلفاء الولايات المتحدة ومصالحها.
لكن رغم انتخاب الإصلاحى مسعود بزشكيان رئيسا فى يوليو الماضى، وعلى الرغم من نيته المعلنة فى الحد من التوترات مع الغرب، فمن غير الواضح ما إذا كان بزشكيان لديه القدرة على تغيير السياسة الإيرانية، ليس فقط فيما يتصل بالقضايا النووية، بل فيما يتصل بقضايا دعم إيران للوكلاء الإقليميين. علاوة على ذلك، يشكو الجانب الإيرانى من أنه لم يحصل قط على الفوائد الموعودة للاتفاق النووى من إدارة أوباما، وينظر بتشكك أكبر إلى أى اتفاق أمريكى مقترح، ويلاحظ أيضا أن أى رئيس مستقبلى قد ينسحب ببساطة من الاتفاق، كما فعل ترامب فى عام 2018، كما يؤمن الحرس الثورى الإيرانى والمؤسسة الدينية هناك أن الولايات المتحدة وحلفاءها عازمون على الإطاحة بنظام الجمهورية الإسلامية.
تزعم دوائر مقربة من إدارة ترامب السابقة، وتأمل فى الخدمة فى إدارة ترامب المستقبلية، أن إيران هى الخيط الذى يمر عبره كل التحديات التى تواجه المصالح الأمريكية فى الشرق الأوسط، وأن سياسة «الضغط الأقصى» كانت صحيحة، وأن السبب فى عدم نجاحها هو التخلى عنها مبكرا. يؤيدون بشدة تشديد العقوبات على طهران، والرد بقوة على تصرفات وكلائها، وإظهار الاستعداد لاستخدام القوة ضد إيران وأصولها فى جميع أنحاء الشرق الأوسط.
أما من ينتقد هذا النهج (الحزب الديمقراطي) فيزعم أن سياسة ترامب أدت إلى أولا تفتيت تحالف دولى كان يحاول تشكيل سلوك إيران، كما أدت إلى تحريرها من أى قيود على برنامجها النووى مما جعلها أكثر خطورة، ويرون أن العودة إلى سياسة الإكراه المباشر هذه لن يكون لها نتائج مختلفة.
• • •
بالنسبة للحرب فى غزة، بات من الصعب تحديد شكل الحل. إذ تصر الحكومة الإسرائيلية على أنها لن توافق على وقف إطلاق النار حتى يتم تدمير حماس، فى المقابل تزداد الدول العربية إصرارا على أن إحراز تقدم نحو إنشاء دولة فلسطينية يشكل شرطا مسبقا لمشاركتها فى صنع السلام، فى حين يقول ما يقرب من أربعة من كل خمسة يهود إسرائيليين لاستطلاعات الرأى أن التعايش السلمى مع الدولة الفلسطينية أمر مستحيل، خوفا من وجود حكومة فلسطينية ذات نوايا قتل أو إبادة جماعية ضدهم.
فشلت استراتيجية بايدن للتأثير والضغط على عملية صنع القرار الإسرائيلى، بل يؤمن البعض أن نتنياهو يسعى إلى الانتظار حتى انتهاء ولاية بايدن، على أمل أن تؤدى رئاسة ترامب إلى تقليل الضغوط التى تدفع إلى تقديم تنازلات للتطلعات الوطنية الفلسطينية. حتى إن البعض يتهم نتنياهو بأنه يفعل ما فى وسعه لخلق هذه النتيجة. ومع ذلك، إذا كان نتنياهو يعتمد على ترامب لدعم إطالة أمد الحرب، فهذا رهان أكثر خطورة. فترامب لديه تاريخ محفوف بالمخاطر مع نتنياهو، وقد أظهرت تعليقات ترامب القليلة على الحرب نفاد صبره تجاه وتيرة المجهود الحربى الإسرائيلى.
أما الحزب الديمقراطى ــ حال فوز هاريس بالرئاسة ــ فسيكون أكثر استقطابًا بشأن إسرائيل، فالعديد من الأقليات الديمقراطية تقف مع الجانب الفلسطينى، ولا يستطيع معظم الناخبات والناخبين الأصغر سنًا تصور إسرائيل كطرف ضعيف. جوهر المشكلة أن نتيجة هذه الحرب وجودية لكل من الجانبين الإسرائيلى والفلسطينى، وليس للولايات المتحدة، ومع ذلك، ستواجه الرئيسة/ الرئيس الجديد دعوات صاخبة للتعجيل بإنهاء الحرب، لكن من غير المرجح أن تنتهى قريبا.
• • •
التحدى الثالث هو العلاقات الأمريكية مع دول الخليج العربية. فبينما تتبنى هذه الدول بقوة التنويع الاقتصادى فى مواجهة التحول القادم فى مجال الطاقة، إلا أنها تسعى فى الوقت نفسه إلى الحصول على ضمان الأمن من الولايات المتحدة إلى جانب الاستقلال الاستراتيجى. هذا يعنى أنها لا ترى أى تناقض بين السعى إلى إبرام اتفاقيات دفاع متبادل مع الولايات المتحدة، وبين العمل على تعميق العلاقات التكنولوجية والدفاعية والاقتصادية مع الصين وروسيا.
الولايات المتحدة تتجه استراتيجيتها الدفاعية حول منافسة القوى العظمى، لذا فإن نهج الخليج محير بالنسبة لها. من ناحية، ترى واشنطن نفسها حامية لنظام قائم على القواعد يجلب الأمن والرخاء لمليارات البشر من بين هؤلاء الذين فى الخليج. من ناحية أخرى، دقت أجراس الإنذار فى واشنطن عندما بدأت الصين فى بناء قاعدة عسكرية فى الإمارات العربية المتحدة، وعندما تدفق رأس المال الروسى إلى دبى فى أعقاب غزو روسيا لأوكرانيا، وعندما فتحت المملكة العربية السعودية أبوابها للاستثمار الصينى فى أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعى ومعدات المراقبة.
وفى حين تبدو إدارة ترامب الأكثر ميلا إلى المعاملات التجارية حفظا لمصالحها، فإن الواقع أكثر تعقيدا. حيث تحدث ترامب بصوت عالٍ عن حماقة المشاركة العسكرية الأمريكية المستدامة فى الشرق الأوسط، ودعا إلى «هيمنة الطاقة» الأمريكية، وهو ما من شأنه أن يقوض جهود الخليج الرامية إلى تشكيل الأسواق. بالإضافة إلى ذلك، أصبحت دول الخليج أكثر حذرا إزاء العمل العسكرى الأمريكى ضد إيران، لأنه من المرجح أن تتحمل وطأة الرد.
• • •
كلمة أخيرة، اعتادت دول الشرق الأوسط، حكومات وشعوبا، على أن يكون الرؤساء الأمريكيون غير محبوبين، وتنتشر الشكاوى بينهم عن أن الرؤساء الأمريكيين لا يفهمون ببساطة منطقتهم. لكن إن وجد فارق وحيد بين زعماء المنطقة ورؤساء الولايات المتحدة، فهو أن كل زعماء المنطقة يعتقدون أنهم باقون فى السلطة حتى بعد انتخاب أى مرشح فى نوفمبر المقبل، وربما حتى بعد انتخاب خليفة ذلك المرشح. هم يتبنون رؤية بعيدة المدى للتحديات التى تواجهها منطقتهم، ويرون أن العديد من مشاكل المنطقة لا يمكن حلها إلا من خلال إدارتها.
فى المقابل، يدخل رؤساء الولايات المتحدة إلى السلطة ولديهم فترة ولاية مدتها أربع سنوات، مع جماهير ورأى عام لا يتحلى بالصبر بل أصبح متشككا فى انخراط الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط.
لذا، أيا كانت نتيجة الانتخابات، فإن الرئيسة/ الرئيس الأمريكى القادم وحكومات المنطقة سيواجهون خيارات صعبة.
جون ألترمان
Center for Strategic and International Studies
ترجمة: ياسمين عبداللطيف
النص الأصلى:
https://rb.gy/tcud75