كتب بول كروجمان مقالا نشر بجريدة نيويورك تايمز بعنوان «الاقتصاد المشوه» جاء فيه: مر الآن خمس سنوات وأحد عشر شهرا، منذ دخول الاقتصاد الأمريكى حالة الركود. ومن الناحية الرسمية، تعتبر حالة الركود منتهية من منتصف عام 2009، ولكن لن يزعم أحد أننا نشهد تعافيا تاما. فمازالت معدلات البطالة الرسمية مرتفعة، وكان من الممكن أن تكون أعلى بكثير إذا لم يكن عدد كبير من الناس قد تسربوا من القوة العاملة. فقد بلغت البطالة طويلة الأجل ــ عدد الأشخاص المتعطلين عن العمل لمدة ستة أشهر أو أكثر ــ أربعة أضعاف ما كانت عليه قبل الركود.
ويضيف الكاتب، يمكن ترجمة هذه الأرقام الجافة إلى الملايين من المآسى الإنسانية، منازل فقدت، ووظائف دمرت، وشباب لا يستطيعون أن يبدأوا حياتهم. وطالب كثير من الناس بسياسات تضع الأولوية لخلق الوظائف. ومع ذلك، ضاعت هذه المطالب وسط أصوات الحكمة التقليدية. وتقول هذه الأصوات إننا لا يمكن أن ننفق المزيد من المال على وظائف، لأن ذلك يعنى المزيد من الديون. فلا يمكننا حتى تعيين العمال العاطلين عن العمل وصرف المدخرات الخاملة فى بناء الطرق والأنفاق والمدارس. فبصرف النظر عما سيحدث فى المدى القصير علينا أن نفكر فى المستقبل!
ويشير كروجمان إلى أن المفارقة المريرة تتمثل فى أن الإخفاق فى معالجة مشكلة البطالة يعنى فى الواقع التضحية بالمستقبل أيضا. فما يراه البعض هذه الأيام سياسة سليمة، هو فى الواقع شكل من أشكال تشويه الذات اقتصاديا، سوف يعوق حركة أمريكا لسنوات عديدة مقبلة. أو هكذا يقول الباحثون من مجلس الاحتياطى الاتحادى، وأنا آسف أن أقول إننى أصدقهم.
ويضيف: أكتب هذا بالفعل من مؤتمر الأبحاث الكبير الذى يعقده كل عام صندوق النقد الدولى. ويدور موضوع هذا العام حول أسباب ونتائج الأزمات الاقتصادية، وتتراوح الموضوعات المعروضة من الجيد (استقرار أمريكا اللاتينية المدهش فى السنوات الأخيرة) إلى السيئ (الأزمة الجارية فى أوروبا). غير أن البحث الأبرز فى المؤتمر سوف يركز على القبيح حقا: الأدلة على أننا نلحق أضرارا كبيرة بمستقبلنا على المدى الطويل من خلال تغاضينا عن ارتفاع معدلات البطالة.
ويقول الكاتب، وفقا للبحث (الذى حمل عنوانا «العرض الكلى فى الولايات المتحدة: التطورات الأخيرة وانعكاساتها على إدارة السياسة النقدية»)، فقد سبب الركود الذى كان يبدو انه بلا نهاية، ضررا طويل الأجل عبر قنوات متعددة. حيث ينظر إلى العاطلين فى نهاية المطاف، باعتبارهم غير صالحين للعمل؛ ويعزى تراجع الاستثمار إلى ضعف المبيعات، وعدم بدء عمل الشركات الجديدة، بينما تبخل الشركات القائمة فى الإنفاق على البحث والتطوير.
ويضيف، الأكثر من ذلك إن معدى البحث ــ وأحدهم مدير البحوث والإحصاءات فى مجلس الاحتياطى الفيدرالى، سجلوا عددا من هذه الآثار، وهى آثار مرعبة. فهم يشيرون إلى أن التراجع الاقتصادى خفض بالفعل الإمكانات الاقتصادية فى أمريكا بنحو 7 فى المائة، وهو ما يعنى أنه يجعلنا أفقر بما يزيد على تريليون دولار سنويا. ونحن لا نتحدث عن الخسائر لسنة واحدة فقط، ولكن عن ضرر طويل الأجل: تريليون دولار فى السنة على مدى عدة سنوات.
وقد تم التوصل إلى هذا التقدير بعد دراسة دقيقة للبيانات، ويمكن الاعتراض على بعض التفاصيل؛ فربما تبلغ خسارتنا 800 مليار دولار فحسب سنويا. لكن هناك أدلة قاطعة على أننا بعدم الاستجابة بفعالية للبطالة الهائلة ــ من خلال عدم اعتبار البطالة أولوية سياسية رئيسية ــ ألحقنا بأنفسنا ضررا بالغا طويل الأجل.
يرى كروجمان أن هذا يمثل مفارقة مؤسفة، لأن من الأسباب الرئيسية لعدم قيامنا بشىء يذكر لمعالجة البطالة، أولئك الذين يرتدون عباءة المسئولية منذ فترة طويلة، ويتحدثون كثيرا عن العجز، واستطاعوا ربطه تماما فى أذهان الرأى العام بتخفيض الدين الحكومى.
غير أن هذا لم يكن منطقيا أبدا؛ وقد حاول بعضنا توضيح أن الدين، رغم ما قد يفرضه من مشكلات، فإنه لا يزيد الدولة فقرا، لأنه عبارة عن أموال ندين بها لأنفسنا. ويخطئ كل من يقول إننا نقترض من أبنائنا.
صحيح، أن الديون يمكن بشكل مباشر أن تتسبب فى إفقارنا، إذا أدى العجز إلى رفع أسعار الفائدة وبالتالى عرقلة الاستثمار الإنتاجى. ولكن هذا لم يحدث، ونجم تراجع الاستثمار عن ضعف الاقتصاد. ومن أهم أسباب استمرار ضعف الاقتصاد، ذلك التأثير المخيب للآمال، لتخفيضات الإنفاق العام وخاصة، التخفيضات فى الاستثمارات العامة ــ التى تم تبريرها باسم حماية المستقبل من التهديد الهائل الذى تمثله الديون المفرطة.
ويتساءل كروجمان، هل توجد فرصة لمعالجة هذا الضرر؟ يبدى الباحثون من مجلس الاحتياطى الفيدرالى تشاؤما، ومرة أخرى، أخشى أنهم ربما كانوا على حق. ومن المحتمل أن تستغرق أمريكا عقودا لتسديد ثمن الخطأ فى تحديد الأولويات خلال السنوات القليلة الماضية.
ويختتم الكاتب المقال قائلا إنها حقا قصة رهيبة: حكاية إلحاق ضرر بالنفس يزداد سوءا لأنه يحدث باسم المسئولية. ويستمر الضرر بينما نحن نتحدث.