لم تكن الصين شديدة الاهتمام بالشرق الأوسط حتى النصف الثانى من القرن الماضى، عندما أطلق دنج شياو بينج (1978ــ1989) برنامجه الإصلاحى، واتجه ببوصلته صوب المنطقة الوحيدة التى يمكنها توفير كميات هائلة من النفط والغاز، والقادرة على تموين النمو الصينى المتزايد. وقد أدى ذلك إلى إقامة علاقات دبلوماسية مع جميع الدول العربية بحلول نهاية عام 1993.
منذ أن أصبحت الصين مستوردا صافيا للنفط فى عام 1993، بدأت وارداتها من الطاقة تتضاعف كل عشر سنوات. مع بداية الألفية الحالية كانت الصين تستورد ما يقرب من 50% من احتياجاتها من الطاقة من الشرق الأوسط، وتقوم بتصدير مجموعة كبيرة من منتجاتها، مع تكثيف استثماراتها، والمشاركة فى تأسيس البنية التحتية والصناعية، ونقل التكنولوجيا والخبرات إلى دول المنطقة. بلغ إجمالى واردات الصين من النفط فى عام 2021 ما يزيد على 51 مليون طن مترى، استحوذ الشرق الأوسط على أكثر من 51% من تلك الكمية، بعد استبعاد إيران (التى انخفضت صادراتها النفطية إلى الصين بفعل العقوبات الأمريكية). المملكة العربية السعودية تظل شريكا تجاريا رئيسا للصين، إذ تزودها بنسبة 25% من وارداتها النفطية، كما تتمتع بنظام سياسى مستقر، وتحتل مركز الزعامة لدول مجلس التعاون الخليجى بلا منازع.
وفى عام 2004 بدأت الصين مفاوضات لإنشاء منطقة تجارة حرة مع دول الخليج، وإنشاء منتدى تعاون صينى ــ عربى. على الرغم من عدم إقامة تلك بعد، نظرا لأن دول الخليج لم تنجح فى إنشاء سوق وعملة مشتركة فيما بينها كشرط أوّلى، فإن المنتدى حقق نجاحا كبيرا فى أكثر من مجال، وهناك اجتماعات سنوية لمراجعة النتائج وتحديد الأهداف التى تعتمدها دول المنتدى. وتأتى استضافة السعودية لقمة قادة دول المنتدى منذ أيام، كشهادة على التصميم لكلا الجانبين على تعزيز شراكتهما الاستراتيجية، وتعميق التعاون فى جميع المجالات.
فى اجتماع عقد فى 9 مارس الماضى، أشاد وزراء خارجية جامعة الدول العربية فى القاهرة بجهود الصين لحل النزاعات الإقليمية سلميا، وأعربوا عن رغبتهم فى تعزيز التعاون مع الصين. وقد تضاعف حجم التجارة الإقليمية بين الصين والدول العربية خلال الفترة من عام 1990 إلى عام 2021، حيث ارتفع خلال تلك الفترة من أقل من ثلاثة مليارات دولار إلى قرابة ثلاثمائة مليار دولار! وبلغ حجم التجارة مع السعودية والإمارات وحدهما 200 مليار دولار. وبهذا أصبحت الصين أكبر شريك تجارى للمنطقة. كما أن الصين هى أكبر مستورد للنفط والغاز من دول الشرق الأوسط التى تمتلك 70٪ و50٪ من احتياطيات النفط والغاز الطبيعى فى العالم.
• • •
بالاستفادة من موقعهما الاستراتيجى على الطريق البحرى بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، بدأت كل من السعودية والإمارات فى تطوير البنية التحتية للموانئ فى نهاية القرن الماضى. تركز إستراتيجية 2030 فى المملكة العربية السعودية لتقليل اعتمادها على النفط، وتنويع اقتصادها، على جعل المملكة مركزا إقليميا للموانئ والنقل. ولهذا تقوم السعودية بتطوير موانئ الدمام فى الشرق وجدة فى الغرب. وتعمل على ربط الخليج الفارسى بالبحر الأحمر، وتهدف إلى أن تصبح موانئها مراكز إقليمية لشحن الحاويات. وتعمل أبوظبى أيضا على تحويل ميناءى جبل على ودبى إلى مراكز لوجستية متعددة الأغراض. وهكذا وجدت بكين أن البلدين مستعدان للاندماج فى مبادرة الحزام والطريق. تهدف الصين إلى زيادة قدرتها على استيعاب سفن الحاويات وتعتزم بناء منطقة صناعية ضخمة ومنطقة تجارة حرة، حيث يمكن تصنيع البضائع المحلية والصينية وبيعها أو تخزينها فى انتظار الشحن إلى الأسواق الغربية.
فى استطلاع للرأى تم إجراؤه على خلفية قمة الصين والدول العربية الأخيرة، بالاشتراك بين مركز «جلوبال تايمز للأبحاث» و«كلية الدراسات العربية» بجامعة دراسات اللغات الأجنبية فى بكين، على قاعدة من المستجيبين تتراوح أعمارهم بين 18 و70 عاما فى مدن من جميع أنحاء الصين، وست دول عربية (المملكة العربية السعودية ــ الإمارات العربية المتحدة ــ قطر ــ مصر ــ الأردن ــ الجزائر) خلال الفترة من 8 إلى 25 نوفمبر الماضى.
وبحسب الاستطلاع، يعتقد أكثر من 70% من المستجيبين الصينيين والعرب أن لديهم بعض المعرفة ببعضهم البعض، بينما يعتقد المزيد من المشاركين العرب أنهم على دراية كبيرة بالصين، أو على دراية نسبية بها. وأظهر الاستطلاع أن 42.8٪ من المشاركين فى الدول العربية كانوا على اتصال بالصين، بما فى ذلك القيام بزيارات إلى الصين، أو تجمعهم صداقات بصينيين.
كما أبدى 79.1٪ من المستجيبين العرب اهتماما بالدراسة فى الصين أو المشاركة فى برامج اللغة وغيرها من البرامج التى تقدمها معاهد كونفوشيوس. وفقا للمحللين، كان هناك اتجاه متزايد فى العديد من الدول العربية لدراسة اللغة الصينية، وأصبحت الأفلام والبرامج التلفزيونية الصينية شائعة فى المنطقة.
وبينما يعتقد 76.7٪ من المستجيبين العرب أن تنمية الصين ستجلب فرصا للعالم العربى، يعتقد 1٪ أن الصين ستشكل تهديدا، مشيرين إلى التأثير على الثقافة والاقتصاد والأمن الإقليمى. ليس من الغريب أن نرى ذلك، حيث إن المنتجات الصينية منخفضة السعر والجودة قد تؤثر على تنافسية المنتجين المحليين، لكن الجمهور السائد فى الدول العربية يتفق على أن التعامل الاقتصادى مع الصين قد جلب المزيد من الفوائد.
يعتقد أكثر من 75٪ من المجيبين العرب أن الصين يمكن أن تقدم تجربة حوكمة جيدة للشرق الأوسط. كما وافق 46.9% منهم على أن الصين لعبت دورا إيجابيا فى القضايا الإقليمية، مقابل 23.7% فقط رأوا أن الدور الفاعل للولايات المتحدة.
يتوقع أكثر من 71% من المشاركين العرب علاقات أعمق مع الصين فى المستقبل، مع توقع 43% توسيع نطاق التعاون، ويعتقد 28.2% أن الدول العربية بحاجة إلى مساعدة الصين وتعاونها فى القضايا الإقليمية والعالمية. كما وجد الاستطلاع أن 44.5٪ من العرب يتوقعون تعاونا اقتصاديا مع الصين. تم تحديد الولايات المتحدة واليابان على أنهما الدولتان الثانية والثالثة اللتان يرغب العرب فى التعاون معهم. وفى الوقت نفسه، فإن أكثر من 80% من المستجيبين الصينيين أكدوا على أهمية الدول العربية بالنسبة للصين، فهم شركاء تجاريون مهمون ويلعبون دورا حيويا فى مساعدة الصين على ضمان أمن الطاقة، فضلا عن دعم مواقف الصين فى المحافل الدولية.
• • •
وفقا لبعض المحللين الصينيين، فإن السبب فى أن الصين هى الأكثر شعبية بين العرب، هو أن تعاونها الاقتصادى مع الدول العربية ليس له شروط سياسية (وذلك طبعا باستثناء شرط الاعتراف بالصين الموحّدة). علاوة على ذلك، فإن إمكانات الصين الهائلة ليس فقط فى النمو الاقتصادى، ولكن أيضا فى التكنولوجيا العالية.
فى السنوات الأخيرة توصلت الصين والدول العربية إلى العديد من صيغ الاتفاق حول قضايا مثل حقوق الإنسان، وقضايا الديمقراطية فى العلاقات الدولية، وبناء نظام عالمى متعدد الأقطاب. ومع تقلص النفوذ الاستراتيجى للولايات المتحدة فى الشرق الأوسط والمنطقة العربية، وانشغال روسيا بالصراع الأوكرانى وتداعياته المستمرة، عملت الصين على ملء هذا الفراغ من خلال لعب دور مؤثر فى المنطقة. وبما أن الدول العربية تعلّق الآن آمالا أكبر على العلاقات مع الصين، فمن المحتم أن تصبح المنطقة مجالا متزايد الأهمية للدبلوماسية الصينية.
بفضل موقعها الجغرافى المهم للغاية، لا بد أن تكون المنطقة العربية منطقة عازلة بين الصين من ناحية والولايات المتحدة وأوروبا من ناحية أخرى. تعد الصين من أصحاب المصلحة فى الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، حيث توجد معظم الدول العربية، لأن المنطقة تربط خمسة ممرات مائية مهمة، وكانت ساحة معركة للاستراتيجيين العسكريين عبر التاريخ، وكانت بمثابة جسر بين الصين وأوروبا على طريق الحرير القديم.
مع الموارد المحدودة والقوى العاملة غير الكافية نسبيا والتنمية الاقتصادية غير المتوازنة، تعد المنطقة العربية مرشحا للتكامل الاقتصادى مع الصين. فالمنطقة العربية هى سوق للمنتجات الصينية، ومستقبل جيد لمشروعات البنية الأساسية والصناعات الهندسية الصينية، فضلا عن العمالة الرخيصة نسبيا. وقد ساعدت تلك المعاملات على زيادة إيرادات الصين من النقد الأجنبى، وجعلها أكثر التزاما بالقواعد الدولية والمواصفات القياسية، كما عزّزت علاقاتها الدبلوماسية مع الدول الأخرى.
وإذ تقترح الصين طرقا لحل النزاعات أو الحد منها فى الشرق الأوسط، فإنها تظل الدولة الكبرى الوحيدة التى ليس لديها سجل استعمارى، أو سبق لها شن غزو أو حروب بالوكالة فى الشرق الأوسط. وعلى مصر أن تبحث لنفسها عن موقع متميز فى بدائل ومشروعات التقارب العربى ــ الصينى، وليكن ذلك عبر استثمار مزاياها النسبية المتمثلة فى الموقع الجغرافى، والاستقرار السياسى، والسوق الاستهلاكية الكبيرة، والقدرات السياحية، والتنوّع الاقتصادى، وطاقة العمل والتشغيل، ووفرة مصادر الطاقة المختلفة، والمناخ الاستثمارى المنفتح نسبيا.. وليكن ذلك عبر الوصول إلى صيغة ثلاثية تلعب فيها دول الخليج دورا فى إعادة هيكلة الدين الخارجى لمصر (والذى تستحوذ على ربعه تقريبا) ، كما تلعب فيه الصين دورا فى تقديم ضمانات ومساعدات عينية فى مجالات الاستثمار الصناعى المتنوّعة، مع تشجيع السائح الصينى على اعتبار مصر مقصدا أساسيا لسياحته الخارجية.. ومن المؤكد أن تساعد تلك التحركات على حلحلة أزمة النقد الأجنبى والتزامات الدين الخارجى فى الأجل القصير، والحديث يطول.