تعد القضية الفلسطينية القضية الأولى لكل العرب والمسلمين بل وكل الشعوب المحتلة التى اعتنقت الكفاح المسلح طريقًا للخلاص مما حل بها من احتلال أجنبى أو غزو خارجى أو طغيان سياسى، وسوريا تجسد بهذا المعنى كل مظاهر النضال الوطنى من أجل الحرية والكرامة والسعى الدائم لاسترداد الحقوق، وهى فى الوقت نفسه قلب الشام الكبير كانت فيها عاصمة أول خلافة إسلامية كما أن سوريا الكبرى تضم الدولة السورية الحالية ولبنان والأردن وأطراف من العراق التى تشكل فى مجملها «الهلال الخصيب» ونجمته فى قبرص، إلا أن أيقونته الضائعة هى فلسطين بكل ما تجسده من معانٍ وما ترمز إليه من دلالات، لذلك كان السوريون ينظرون إلى القضية الفلسطينية باعتبارها قضية سورية أيضًا، مثلما هى بالنسبة لمصر قضية مصرية كذلك، وقد اتخذت الدولة السورية فى مراحل تاريخها الحديث واحدًا من أكثر المواقف تشددًا تجاه القضية الفلسطينية وأكثرها عداءً لإسرائيل، كما خاضت حروبًا فى 1948 و1967 و1973 دفاعًا عن الحق الفلسطينى، بل قادت دمشق دائمًا جبهة الرفض لما اعتبروه تخاذلاً من مصر السادات بالانخراط فى سياسات كامب ديفيد ونتائجها السلبية على الصراع العربى الإسرائيلى بشكل عام كما رأتها مجموعة الدول الرافضة.
ويحسن أن نشير هنا إلى المقومات الراسخة فى الخطاب السياسى السورى الذى كان يتحدث دومًا عما يسميه «الكيان الصهيونى» ويتشدد ظاهريًا فى إدانته والعداء معه، فما أبعد الليلة عن البارحة، فها هو الخطاب السورى الجديد يتحوّل بين يومٍ وليلة – فى ظاهره بغض النظر عن جوهره – إلى خطابٍ ودى يسعى لعلاقاتٍ طيبة بين سوريا وإسرائيل، ونحن لا ندعى الوصاية على ذلك التوجه السورى الجديد ولكننا نعبّر عن دهشتنا لانتقال الخطاب مائة وثمانين درجة للاتجاه المعاكس، ونحن لا ننكر فى الوقت ذاته تأثير نظرية تغير الظروف على الأفكار والسياسات والمواقف ولنا هنا بعض الملاحظات على ما جرى فى سوريا العربية وتأثيره على مستقبل العلاقات فى المنطقة العربية والصراع العربى الإسرائيلى بشكل خاص وفى جوهره القضية الفلسطينية بتاريخها الطويل وآثارها على الإقليم كله ومنطقة غرب آسيا والخليح العربى والجزيرة العربية وشمال إفريقيا، نرصد تلك الملاحظات فى المحاور الآتية بشكل موجز: أولاً: إن سوريا كسائر الأقطار العربية تتحمل مسئولية تاريخية فى الصراع العربى الإسرائيلى حربًا وسلامًا ولا يمكن اختزال ذلك كله فى بعض العبارات أو التصريحات دون تمهيد سياسى أو تحول فكرى متفق عليه على المستوى العربى العام، فسوريا التى كانت سباقة فى المد القومى ولو بشكل نظرى لا يمكن أن تصبح بين عشية وضحاها معبرًا للتطبيع الشامل مع الدولة العبرية قفزًا على الأزمنة والأحداث والمواقف حتى لو جاء ذلك تحت شعاراتٍ إسلامية أو تبريرات مرحلية خصوصًا أن المشهد العام فى المنطقة اليوم يمر بأسوأ ظروفه بعد مذابح غزة وتوترات لبنان وضرب البنية العسكرية التحتية للجيش السورى على نحوٍ يؤكد أن روح العداء لم تنتزع من الطرف الآخر، وأن العنصرية والغلو والتشدد تمضى كلها على ما كانت عليه على المستويين الرسمى والشعبى، فالقضية الفلسطينية ليست وليدًا جديدًا ولكنها مسألة معقدة مرت بمراحل طويلة ودفع فيها العرب، بما فيهم السوريون، فاتورة غالية عبر السنين، وكان يمكن أن يتم ما جرى بحسابات ذكية وخطوات متأنية بمقابل حقيقى تدفعه إسرائيل ثمنًا للسلام وتحقيقًا للعدل واستعادة للحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية المهدرة بعد نزيف الدم الذى شهده العالم فى أنحاء غزة لما يزيد عن عامٍ كامل توجته إسرائيل بهدم المستشفيات وقتل البشر وترويع الأسر التى فقدت كل واحدٍ منها شهيدًا أو ما يزيد.
ثانيًا: لا يوجد تناقض بين التعاليم الإسلامية والمفاهيم القومية إذ يلتقيان على مبادئ العدل والمساواة والتسامح، بل إن العروبة هى التى حملت الإسلام إلى كثير من المناطق التى دخلها حتى ظهرت القومية العربية ابنة الشام الكبير لكى تكون نقطة بداية لمدٍ قومى وحلم عربى لا يزالان يراوحان مكانهما حتى الآن، كما أننا يجب أن نعترف بأن الرقائق الحضارية والمظاهر القومية تمثل فى مجملها عناصر السبيكة فى شخصية المنطقة وهوية شعوبها، فلا الفرعونية فى مصر ولا الفينيقية فى الشام ولا الآشورية فى بلاد النهرين تتناقض فى مجموعها مع العروبة التى زحفت من الجزيرة العربية وانتقلت من دولة الخلافة المطلقة إلى دولة الحكم الوراثى على يد معاوية بن أبى سفيان والدولة الأموية التى ورثها بعد ذلك بنو العباس.
ثالثًا: إننا نعترف بأن الإسلام غطاء حضارى شامل للمنطقة بأسرها ولكنه لا يقف وحده، فالمسيحية الأولى بدأت من الشام وفى فلسطين ولد المسيح عليه السلام، ولا يمكن أن نقلل من تأثير أصحاب الديانات الأخرى فى المكون الشامل لهوية الأمة بعد قرونٍ من العناق التاريخى بين ورثة الحضارات وأتباع الديانات فى المنطقة العربية كلها، كما لا يمكن إهدار مراحل التاريخ بحادث عابر أو تغيير طارئ، فالشعوب باقية والديانات قائمة والأمة العربية تعتز دومًا بمسلميها ومسيحييها بل ويهودها أيضًا. رابعًا: إن التحول الفكرى لدى البشر أفرادًا وجماعات أمرٌ لاجدال فيه ولا اعتراض عليه، فالإنسان ابن ظروفه والعقل البشرى لا يتوقف والتطور سنة الحياة، ولكن الأمر فى مجمله يحتاج إلى خطوات مدروسة وانتقالات محسوبة تضع فى اعتبارها أسباب الظروف المتغيرة وتأثيرها على رسم صورة المستقبل وتصور أبعاده المختلفة وتخيل آفاقه بشكل عام، وأنا هنا لا أصادر مرة أخرى على التحول الفكرى الذى طرأ على قيادات دمشق من عضوية منظمات غير شرعية إلى مقاعد الحكم الرسمية لواحدة من أهم العواصم العربية، ولكننى أتحسب كثيرًا لاحتمالات الارتداد الفكرى الذى يكون من توابع الزلازل الكبرى فى الطبيعة أو فى السياسة على حدٍ سواء. واضعين فى الاعتبار أن الرواية لم تتم فصولاً وأن الحكاية لم تكتمل أركانها بعد وقد يطول بنا الانتظار فعامل الزمن طويل وآثاره بعيدة المدى خصوصًا عندما يتصل الأمر بالنفس البشرية وتحولاتها والعقل الإنسانى وتقلباته بكل ما يؤثر فيه ويتأثر به.
وإذا كنا نتصور اليوم أن النمط التركى سوف يسود على الساحة السورية فإن الأمر لن يكون سهلاً ولا شك أنه سيأخذ وقتًا وذلك كله شريطة حسن النوايا وصدق المقاصد والفهم العميق لفقه الأولويات على ساحات الشام، وقد يمضى صراع مكتوم لسنوات بين تيارات ثلاث أولها عروبى وثانيها تركى وثالثها إيرانى، وإسرائيل ترقب فى سعادة مخرجات ذلك الصراع مع ميلاد الهوية السياسة لسوريا الجديدة التى تضم شعبًا أبيًا ذكيًا صبورًا بطبيعته شجاعًا بفطرته لا ينفصل أبدًا عن أمته وقوميته.هذه قراءة وصفية للأوضاع التى طرأت على المنطقة العربية فى الأسابيع الأخيرة بعد شهورٍ من الحرب فى غزة والقلق فى لبنان والترقب فى كافة العواصم العربية والشرق أوسطية التى تظن أن ما هو قادم يحمل الكثير من أسباب التغيير وعوامل التحول، فالأمم كالكائنات والشعوب مثل البشر تبدو فى حراكٍ دائم وحيوية مستمرة والجمود ليس صفة دائمة ولا حالة مستمرة، وما أكثر ما شهد التاريخ من تغييرات سياسية وانقلابات فكرية وتحولات اجتماعية سقطت معها نظم وقامت بها دول واستقرت حكومات، دعونا نتأمل ماهو قادم ونأمل الخير فى مستقبل أفضل لشعوب المنطقة العربية والشرق الأوسط الذى يتطلع للسلام والاستقرار والعدالة الدائمة واحترام تطلعات الأمم نحو غدٍ أفضل.
نقلا عن إندبندنت عربية