طائرة «يوــ 2» الأمريكية والمنطاد الصيني - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الأربعاء 25 ديسمبر 2024 3:34 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

طائرة «يوــ 2» الأمريكية والمنطاد الصيني

نشر فى : الإثنين 13 فبراير 2023 - 9:25 م | آخر تحديث : الإثنين 13 فبراير 2023 - 9:25 م
فى مطلع مايو 1960، اخترقت طائرة التجسس الأمريكية الأسطورية من طراز «يوــ2 سى»، الأجواء السوفييتية. مبتغية سبر أغوار ترسانة موسكو النووية، للتثبت من شائعة توجيهها صواريخ نووية تجاه الأراضى الأمريكية. بيد أن أنظمة الدفاع الجوى السوفييتية تمكنت من رصدها، وإسقاطها بصاروخ من طراز«سام ــ2»، مع أسر قائدها واستجوابه.
نالت الواقعة من هيبة العسكرية الأمريكية، ووجهت صفعة لأيزنهاور. لكنها فاقمت التوتر فى العلاقات الأمريكية ــ السوفيتية، وقوضت جهود التهدئة وخفض التصعيد بين الجانبين. حيث أطاحت برهانات كل من، أيزنهاور، وخروشوف، على حقبة من التعايش السلمى. حيث أفسدت قمة رباعية؛ أمريكية، سوفييتية، بريطانية، فرنسية، بباريس، يوم 16 مايو 1960، لبحث مسألة برلين، وقضية ضبط التسلح النووى. ففى مستهلها شن خروشوف، هجوما عاصفا على أيزنهاور، أدان خلاله «الخروقات الأمريكية الاستفزازية وغير المقبولة»، وطالب بمعاقبة المسئولين عن «الانتهاك المتعمد لسيادة الاتحاد السوفييتى». ولم تُعقد المباحثات الثنائية بينه وبين أيزنهاور، على هامش القمة. كما تم إلغاء زيارة الأخير، التى كانت مقررة لموسكو فى الشهر التالى. الأمر الذى بدد آمال، أيزنهاور، فى تحقيق انفراجة بالحرب الباردة قبل نهاية رئاسته. كذلك، تمخضت الواقعة عن إجهاض مساعى ضبط التسلح الاستراتيجى بين القوتين العظميين. إذ بددت حماس خروشوف، لتوقيع اتفاقية الحد من التجارب النووية، وحملته على استئناف تجاربه النووية، بعد توقف ناهز سنوات ثلاث. كما أشعلت سباق تسلح محموم لتطوير منظومات الدفاع الجوى والأنظمة الصاروخية الباليستية.
نظرا لكفاءتها، التى جاوزت إمكانات أقمار التجسس الاصطناعية الحديثة، واصلت الولايات المتحدة الاعتماد على طائرات «يوــ2 سى»، بيد أن افتقادها للشبحية، مكَن الدفاعات الجوية الصينية من رصدها، فى أغسطس 2020، أثناء تحليقها فوق منطقة حظر الطيران ببحر الصين الجنوبى، حيث كان الجيش الصينى يجرى تدريبات عسكرية. وحينئذ قدمت بكين «احتجاجا شديد اللهجة» لواشنطن، وحثتها على الوقف الفورى لمثل هذه الأعمال، التى اعتبرتها «استفزازا سافرا».
قبيل انقضاء الشهر الفائت، وفى حادثة لم تكن الأولى من نوعها، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية، رصدها وتتبعها منطادا صينيا ضخما يحوى تجهيزات متطورة، ويتمتع بإمكانات بعيدة المدى، وقدرة على المناورة، ويتم توجيهه بالأقمارالاصطناعية، ويحلق على ارتفاعات تفوق مستوى طيران المقاتلات والطائرات التجارية، مع تضاؤل انبعاثاته وبصمته الرادارية، ما يجعله عصيا على الرصد، وبمقدوره الاضطلاع بمهام تستعصى على الأقمار الاصطناعية، مثل التسكع لفترة أطول، والصعود والهبوط فوق المواقع المستهدفة. وأكد البنتاجون أن المنطاد، الذى انتهك السيادة الأمريكية والقانون الدولى، جزء من برنامج مراقبة صينى كونى، ينشد التجسس على المواقع الاستراتيجية فى الولايات المتحدة القارية، إذ تعمد التحليق فوق البؤر الحساسة، بولاية مونتانا، التى تضم عشرات من صوامع إطلاق الصواريخ النووية الباليستية، وقواعد للقاذفات الاستراتيجية بعيدة المدى.
فور اكتشافه، أعلنت بكين، أن منطادها مدنى، يستخدم للأغراض البحثية، لاسيما الأرصاد الجوية، وعبرت عن أسفها لعروجه «غير المقصود»، وانحرافه عن مساره «بطريق الخطأ» إلى المجال الجوى الأمريكى، تحت وطأة «قوة قاهرة»، وتأثره بالرياح الغربية، مع محدودية قدرته على التوجيه الذاتى. حتى أنها حملت رئيس هيئة الأرصاد الجوية الصينية مسئولية هذا الأمر، وأقالته من منصبه. ورفضت بكين اتهامات واشنطن لها بالتجسس، وأدانت تضخيم الأمريكيين «التهديد الصينى»، وتشبثهم بعقلية الحرب الباردة، ذات المحصلة الصفرية، عبر إصرارهم على التموضع العسكرى فى المحيطين الهادى والهندى.
بعيد أيام قلائل على رصده، أعلن البنتاجون، قيام مقاتلة أمريكية من طراز «إف 22» بإسقاط المنطاد الصينى، بصاروخ من طراز «إيه.آى.إم ــ 9 إكس»، قبالة السواحل الأطلسية لولاية كارولاينا الجنوبية. وعلى الفور، تم انتشال حطامه، والبدء بفحصها ودراسة محتوياتها، لمعرفة ما إذا كان مصمما لمهام علمية، أو للتجسس واختبار قدرة الرد الأمريكية.  لكن بكين، انتقدت هذا السلوك، متهمة الولايات المتحدة بالمبالغة فى رد الفعل، وانتهاك الأعراف الدولية بشكل خطير، معربة عن استيائها الشديد، واحتجاجها على استخدام واشنطن القوة المفرطة، لمهاجمة منطاد مدنى غير مأهول. لافتة إلى أن الأفعال الأمريكية أضرت بجهود الطرفين من أجل إرساء الاستقرار فى علاقاتهما البينية، منذ التقاء الرئيسين، جو بايدن وشى جينبينج، بإندونيسيا فى نوفمبر الماضى.
أسوة بما أفرزته واقعة إسقاط طائرة التجسس الأمريكية «يوــ2»، من تداعيات سلبية على العلاقات السوفييتية ــ الأمريكية وقتذاك، كان لحادثة المنطاد الصينى صدى مماثل على العلاقات الصينية ــ الأمريكية. حيث أرجأت واشنطن زيارة وزير خارجيتها، أنتونى بلينكن، التى كانت مقررة لبكين يومى 5 و 6 فبراير الحالى. وهى الأولى من نوعها منذ عام 2018، بغرض إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة بين واشنطن وبكين. وبينما كانت علاقات البلدين مهيأة لتحقيق تقدم لافت، عبر إحياء زخم قمة إندونيسيا، وما تلاها من اتصالات وتبادل للوفود، وصولا إلى تلك الزيارة، جاءت أزمة «منطاد التجسس» لتعيد العلاقات إلى برود المربع الأول.
واكبت أزمة المنطاد، توترات أمريكية ــ صينية، على خلفية مساعى بكين لتعظيم قدراتها العسكرية، وتحدى التموضع الاستراتيجى الأمريكى فى المحيط الهادى وبحر الصين الجنوبى. مع اتهامات أمريكية لبكين بالتجسس العسكرى والتكنولوجى على الولايات المتحدة. وقبل أسابيع قلائل من حادثة المنطاد، أغلقت الصين القنصلية الأمريكية بشينجدو، ردا على ضلوع موظفين بالبعثة الأمريكية فى تعريض أمن الصين ومصالحها للخطر. فيما اتخذت الولايات المتحدة خطوة مماثلة تجاه قنصلية بكين فى هيوستن، بذريعة ممارسات «غير مقبولة» تورطت فيها البعثة الصينية، للتجسس على مؤسسات أمريكية حيوية، وسرقة أبحاث طبية وعلمية. وبينما دأب الطرفان، على استخدام أقمار اصطناعية ابتغاء التجسس والمراقبة من الفضاء. ارتأى خبراء أمريكيون فى اختراق المنطاد الصينى للأجواء الأمريكية، تكتيك تجسس فائق الجرأة من خلال استعراض القدرات التكنولوجية، ردا على برنامج المراقبة الأمريكى فوق الصين، من محطة الفضاء الدولية.
فى رد فورى على إسقاط منطادها، استغلت الصين زيارة نائب وزير خارجيتها لروسيا بالتزامن، للإشادة بتعاظم الثقة المتبادلة مع موسكو. إذ أبدت استعدادها للعمل سويا، لأجل تعزيز شراكتهما الاستراتيجية على مختلف الصعد. بدوره، أكد وزير الخارجية الروسى، أن علاقات بلاده مع الصين، ورغم عدم بلوغها مستوى التحالف الاستراتيجى رسميا، إلا أنها تتعمق بغير حدود. مذكرا بإعلان رئيسى البلدين، فى موسكو قبل عام مضى، شراكة استراتيجية، تنشد التصدى للهيمنة الأحادية الأمريكية، دون أن تكبل تطورها أية محاذير. فى الأثناء، أماطت صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية، اللثام عن قيام شركات الدفاع الحكومية الصينية، بتزويد نظيراتها الروسية، بتقنيات وتجهيزات عسكرية، على شاكلة؛ معدات الملاحة، تكنولوجيا التشويش، ومكونات الطائرات المقاتلة، بقصد معاونة الجيش الروسى على مواصلة حربه فى أوكرانيا.
ربما يحوى تأكيد بكين على احتفاظها بالحق فى استخدام الوسائل والردود الضرورية، فى التعامل مع أى حوادث أمريكية مماثلة لحادثة المنطاد؛ إشارات على إمكانية تصعيد التوتر بين الجانبين، حالة تكرار هكذا استفزازات مستقبلا. إذ لم يستبعد مراقبون تخطيط الصين، التى لا تتورع عن التصدى لتوغل السفن والطائرات الحربية الأمريكية فى المياه والأجواء الصينية، لاستدراج واشنطن نحو إسقاط المنطاد الصينى. عساها تؤسس لسابقة أو ذريعة، تتكئ عليهما للتصرف بذات الطريقة، إزاء أى انتهاك أمريكى، بحرى أو جوى، مرتقب، لما تعتبره بكين، مجالها الجيوسياسى الحيوى.
لا تشى تلك التطورات الدرامية للأزمة، بأن سيناريو صداميا يلوح فى الأفق. فمن جانبها، صنفت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، حادثة المنطاد، تهديدا أمنيا متواضعا، ذا تقنية متواضعة نسبيا. مقارنة بتكنولوجيا التجسس متعددة الطبقات، أو التنافس الاقتصادى والسيبرانى، والعسكرى، والجيوسياسى، المتعاظم مع الصين. ورغم ما استتبعته الحادثة من ملاسنات سياسية حادة، أججها إرجاء زيارة بلينكن إلى بكين؛ هُرع الطرفان إلى إبداء رغبتهما المشتركة والملحة، فى تجنب التصعيد، واستبقاء فرص التفاهم والتهدئة. فبينما جددت بكين رهانها على مقاربة التعاون البناء مع واشنطن. أكد الرئيس، بايدن، أن الحادثة لم تضر بالعلاقات الثنائية بين البلدين. كما أشاد باستمرار الاتصالات بين المسئولين الأمريكيين ونظرائهم الصينيين، الذين توافقوا بشأن تحديد موعد جديد لزيارة بلينكن لبكين، فور استعادة الأجواء الملائمة.
التعليقات