انتقل إلى رحمة الله تعالى قبل ثلاثة أيام الفنان زكريا إبراهيم مؤسس فرقة الطنبورة البورسعيدية التى طافت العالم، وقدمت تراث السمسمية وأغنيات المقاومة وحافظت عليه من الاندثار والضياع. وقد عرفته معرفة مباشرة أنا وكل أبناء جيلى عند انطلاق تجربته الفنية فى التسعينيات التى أصبحت فاعلا أصيلا فى مشهد ثقافى كان يتغير تغييرا شاملا.
وعلى الرغم من صراعات واتهامات طالته وطالت آخرين من صناع المشهد الثقافى آنذاك بشأن حدود العمل مع المؤسسات الأجنبية الشريكة أو تلقى بعض التمويلات إلا أن زكريا إبراهيم تخطى كل ذلك بشكل عملى، وأتاح تجربته أمام الناس واستطاع الحفاظ على تراث السمسمية وجمع عازفيها من جميع مدن القناة وكون مركزا لتدريب عازفين جدد كان أقرب إلى مبادرة تنموية ناجحة. سعى زكريا إبراهيم إلى توثيق ذلك كله ووفر مادة بحثية هائلة أتاحها أمام مئات الباحثين والإعلاميين الذين جذبتهم عروض الفرقة.
وبفضل جهوده التى سبقه إليها شقيقه المخرج السينمائى محمود إبراهيم أصبح للفرقة كيان متماسك وهو مركز المصطبة لعروض السمسمية وقد حافظ عليه لأكثر من 35 عاما، كما استطاع جمع فرق أخرى من المناطق الحدودية واكتشف معها بعض الآلات التى لم تكن شائعة فى مصر مثل آلة الرانجو، أو الجرنك وضمها إلى برامج الفرقة التى لم تتوقف أبدا عن تمثيل مصر فى محافل ومهرجانات دولية واستطاع كذلك أن يخصص لعروضها مسرحا فى القاهرة هو مسرح الضمة الذى اتسع رغم صغر مساحته لضحكات كثيرة وأصبح علامة رئيسية من علامات البهجة فى ليالى القاهرة.
وامتد اهتمام الريس زكريا كذلك إلى تجارب غنائية تم تهميشها رسميا على الرغم من حضورها الجماهيرى الواسع، فقبل عامين فقط أتاح فيلما وثائقيا متفردا أعده عن تجربة المغنية الشهيرة (شفيقة) التى كانت تمثل ظاهرة مهمة فى سنوات التسعينيات، كما لم يكن غريبا أبدا أن يدخل طرفا فى شراكات مع تجارب أخرى مماثلة كانت تدافع عن استقلالها وترغب فى العمل فى مناخ ثقافى حر. قبل موته بأقل من 72 ساعة مر بالمصادفة أمام المقهى الذى اعتدت الجلوس عليه، وخالف عاداته ولم يعبر مسرعا، بل قبل دعوة للجلوس معنا، وغمرنا بالحكايات الموجزة والضحكات الصافية وغادر مسرعا كأنما جاء فقط ليودعنا. لا أتذكر زكريا إبراهيم الذى غادر بخفة طائر إلا ومعه الكثير من الذكريات المرحة ولحظات الفرح الحقيقية التى صنعها لنا ولابنائنا الذين حملهم فوق أكتافه وطار بهم ورفع أجسادهم إلى السماء التى لم تكن بعيدة أبدا عن يديه.
كما لا يمكن نسيان الأرواح التى شاركته هذا الانطلاق وأولها الصديق الراحل هانى درويش الذى كان حماسه للفرقة جزءا أصيلا من لياليها ومسامراتها التى استقرت فى الذاكرة محاطة بأشجان كثيرة.
كان زكريا إبراهيم تلخيصا بليغا لكل ما نحبه فى بورسعيد وكل ما نفتقده فيها اليوم، حيا مثل موجة وطازجا مثل أسماك بحرها الذى غمره بالكثير من الغناء. واكتب واسترد فى روحى بهجة تركها حفل حضرته للفرقة على شاطئ بورفؤاد عند كافتيريا النجمة، حفل نادر تخلصت فيه الفرقة من تحفظ جمهور القاهرة وارتباكه وانغمست فى طقس بدائى تماما مع جمهورها الحقيقى الذى يحفظ تراثها كوشم لا يزول، بفضل هذا الطقس ستواصل الفرقة حياتها وبمثله أيضا سيمضى زكريا إبراهيم مطمئنا إلى رحلته الأخيرة.