يوما بعد يوم تنجح القوى الخارجية، المتآمرة دوما على الوطن العربى، والقوى الداخلية، الرافضة دوما لكل إصلاح حقيقى قد يمس مصالحها وامتيازاتها ونفوذها، فى إفشال كل حراك جماهيرى عربى يحاول إخراج وطنه من أوضاع الاستبداد السياسى والاستباحة الاقتصادية والارتهان لإرادة الخارج والاندماج المذهل فى مساوئ النظام العولمى النيولبرالى المتوحش.
ما يميز ذلك المشهد هو الإصرار على جعله مشهد صراعات وخلافات فيما بين أنظمة حكم عربية أو تقييمه على أنه نجاح باهر لهذا النظام أو إخفاق مخجل لذاك النظام.
يغيب الجانب الأهم فى ذلك المشهد، جانب إرادة ومصالح وأحلام المجتمعات والشعوب، احتقارا لها من قبل البعض، وإدخالا فى اليأس والدعة المذلة من قبل البعض الآخر. ما يوجع ويؤلم هو أن تلك الشعوب والمجتمعات هى التى تدفع الثمن الباهظ، دمارا فى مدنها وغيابا متعمدا لخدماتها الاجتماعية من مثل التعليم والصحة والنقل والعمل، وتهجيرا مخططا لملايينها إلى الملاجئ والتسول فى الشوارع والاضطرار لبيع الجسد والانغماس فى كل أنواع الرذيلة.
وبحرقة قلب وشعور بالعجز يشاهد الناس يوميا مناظر الأطفال والنساء والعجزة وهم يبكون ويولولون فى الشوارع وفى الملاجئ البائسة القذرة المذلة لآدمية الإنسان. وبقدرة قادر تبقى الامتيازات السابقة كما كانت، ويبقى الفساد السابق منتشرا ومتجذرا، وتبقى الشمس مشرقة على البعض، بينما الظلام الداكن المرعب يلف غالبية المواطنين التائهين على وجوههم بين نيران الجحيم الذى يعيشونه ليل نهار.
***
من قبل كان الادعاء الكاذب بأن الحراكات فيها عنف يهدد الأمن الداخلى، وبالتالى لابد من مواجهتها بالبطش والسجون وتضييق الحريات وإصدار أشكال لا حصر لها ولا عدد من القوانين الجائرة. لكن حراكات الشهور القليلة الماضية الكبيرة المليونية المسالمة القانونية إلى أبعد الحدود فضحت المستور وراء أقنعة الخارج والداخل.
كل وسائل الخداع، والتسويف، والاعتقالات، والتلاعب بالوقت والاتهامات الملفقة، والوعود المسكنة المخدرة غير الصادقة، جميعها استعملت وأعيد طرحها كاستجابة واعدة وضرورية لمطالب الملايين المسالمين المغدورين فى كل جانب من حياتهم المعيشية.
كان الأمل أن تتعلم نخب الحكم العربية ومن ورائها من المآسى الجنونية التى غطت بعض أجزاء الوطن العربى فى العشر سنين الأخيرة وأحالت الوطن العربى إلى خراب وباب تنعق فيه الغربان، وأن تصحو المؤسسات الإقليمية العربية المشتركة من سباتها وكسلها وقلة حيلتها، لكنها جميعا لم تتعلم، ولم يصح ضميرها الجمعى بعد، وبقيت تمارس شعار: علىَّ وعلى أعدائى، وليحترق الجميع.
يستطيع من يريد أن يصف ما قلناه بأنه بكائية من بكائيات أمة العرب. لكن الإحن والمحن التى تعيشها الأمة العربية يجب أن توصف كما هى، فلعل مناظر الشياطين وهم يبتسمون فى أغلب العواصم العربية تحرك ساكنا فى الجهة الوحيدة المأمول منها شيئا: جهة المجتمعات المدنية العربية، وعلى الأخص شبابها.
هؤلاء يجب أن يعوا بأن كل ممارسات العلاقات العامة المظهرية التى تمارسها بعض الجهات، بخبث وتمويه، وبأن كل الدفع الممنهج لانغماس شباب وشابات الأمة فى الثقافة العولمية الاستهلاكية الفردية المسطحة الكارهة لكل التزام وطنى وقومى وإنسانى، وبأن الهوس البليد بسخافات المنافسات الرياضية وتقليعات الغناء المبتذل وانبهارات وسائل التواصل الاجتماعية المتغيرة يوميا.. بأن جميع ذلك لن يكون طريقا حاسما ومؤكدا لإخراج أوطانهم من الجحيم الذى تعيشه، ولاستجابة قوى الامتيازات الداخلية والخارجية للمطالب العادلة التى رفعوها ويرفعونها.
كل ذلك لن يجفف الدموع، ولن يوقف إراقة الدماء، ولن يمنع تدمير المدن، ولن يؤخر التوجه السريع لإعطاء الاستخبارات شرعية اتخاذ القرارات الكبرى.
***
ما قلناه ونعيد قوله بأنه لا حل إلا بقيام كتلة متناسقة متعاونة متعاضدة من قوى المجتمعات المدنية العربية الحية النشطة المعبرة عن ضمير الأمة، وذلك لمواجهة الانحدار الخطر الذى تتوجه إليه الأمة، إذ لن يستطيع أحد أن ينجو من الطوفان الهائج الذى يخطط لهذه الأمة.
عندما بدأت حراكات وثورات الربيع العربى، وتعثر الكثير منها، قلنا بأن الثورات لها منطقها فى الفشل والنجاح، فى الصعود والهبوط. خروج الملايين من الشعب العربى من جديد للمطالبة بالحرية والكرامة والعدالة يؤكد أن الشعوب العربية لن تتوقف بعد الآن عن تغيير أوضاعها المزرية، مهما كانت الآلام والتضحيات. هذه الحقيقة يجب أن تقنع الكثير من الجهات الخارجية والداخلية ألا تراهن على عامل الوقت وعلى الضعف الذى سيدب فى هذه الأمة التى ستنهض، طال الزمن أم قصر.