قبل أربعين عاما نشرت دار الشروق كتابا للأستاذ محمد حسنين هيكل، بعنوان "زيارة جديدة للتاريخ" تحدث فى فصوله السبعة عن لقاءات منفصلة مع عدد من كبار الشخصيات العالمية، كل فى فصل خاص به، وكان آخرها فى الفصل السابع الذى عرض الأستاذ هيكل فيه تفاصيل لقاء طويل جمعه بديفيد روكفلر، فى خريف عام 1975، فى مكتبه فى منطقة وول ستريت، حى المال بجنوب مانهاتن بمدينة نيويورك. واختار هيكل سؤال «القرار الأمريكى من يملكه» كعنوان لهذا الفصل.
وصف هيكل روكفلر بأنه «أمير نيويورك»، وأنه «رئيس حكومة الظل»، وكرر على لسانه مقولة إن «المال والسياسة وجهان لعملة واحدة». وعلى مدار اللقاء تحدث الرجلان كثيرا عن سياسة واشنطن فى الشرق الأوسط، إلا أن هيكل طرح كذلك الكثير من الأسئلة عن طبيعة الشأن الداخلى الأمريكى، خاصة ما يتعلق منها بعملية صنع القرار، والتى اعتبرها لا تختلف كثيرا باختلاف هوية حاكم البيت الأبيض سواء كان جمهوريا أو ديمقراطيا. وكان روكفلر يشغل حينذاك منصب رئيس بنك «تشيس مانهاتن» أكبر بنوك أمريكا والعالم حينذاك. ولد روكفلر عام 1915 وتوفى بعد أن عاش أكثر من قرن من الزمان عام 2017. كان روكفلر آخر حفيد على قيد الحياة لجون روكفلر الأب، مؤسس شركة «ستاندر أويل Standard Oil » أكبر شركة طاقة فى العالم فى أواخر القرن 19 وأوائل القرن العشرين. وكان لروكفلر الحفيد، مثله مثل جده، علاقات قوية بالرؤساء الأمريكيين وقادة العالم، وكان معروفا بدوره الكبير فى السياسة الخارجية الأمريكية، خصوصا فى تعزيز العولمة والعلاقات بين الشركات متعددة الجنسيات والحكومات. ويعد روكفلر أحد أهم رموز النخبة الاقتصادية والسياسية الأمريكية فى القرن العشرين، وترك إرثا هائلا فى عالم المال والسياسة والأعمال الخيرية.
• • •
خلص الأستاذ هيكل بعد لقائه إلى أن هناك قوى توجه وتناقش الخيارات السياسية الأمريكية، ويجمع هذه القوى شبكة واسعة ومتسقة من المصالح التى تخلق ما يشبه الإرادة الواحدة التى تحدد الإطار العام للسياسات الأمريكية رغم حركتها المستمرة، وجدالها الذى لا ينتهى، بحيث لا يمكن لرئيس أو حزب أن يخل بإطار المصالح المتفق عليه، ويمكن أن نطلق عليها مفهوم «المؤسسة Establishment». ولا يسمح هذا الترتيب والاتفاق العام لأى من الحزبين، أو الرؤساء، الانقلاب على قواعد اللعبة الانتخابية الدورية، أو على مبادئها الراسخة من فصل السلطات، وسيادة القانون، والمراجعة، والحساب. وتضم هذه القوى العديد من المنظمات والشركات ورءوس الأموال وشبكات المصالح ومراكز التفكير ونقابات العمال وجماعات الضغط ووسائل الإعلام، أى كل مكونات وفئات المجتمع الأمريكى النافذة. واعتبر الأستاذ هيكل أن هذه الشبكة الضخمة تم التعبير عنها تقليديا فيما بات معروفا بـ «المؤسسة الشرقية» وهى شبكة تقليدية تشكلت فى مدن الساحل الشرقى الأمريكى، والتى منها ومما تمثله تأسست الدولة الأمريكية عمليا وفكريا. ومن هذه المراكز الشرقية تأتى مدن نيويورك، وبوسطن، وواشنطن، وبالتيمور، وفيلادلفيا عاكسة لهذه المؤسسة التى كان لها الريادة حتى منتصف القرن العشرين. واعتبر هيكل أن هناك مؤسسة أخرى ساهمت فى تشكيل الولايات المتحدة الحديثة، وهى «المؤسسة الغربية» التى تعتبر أكثر راديكالية وتهورا وثورية وإبداعا من مثيلتها الشرقية، ومن مدن هذه المدرسة لوس أنجلوس، وسان فرانسيسكو، وسياتل، ويضم هيوستن إليها، وهذه المدن كانت حجر الأساس للإبداع التكنولوجى والصناعى الأمريكى فى النصف الثانى من القرن العشرين وحتى الآن.
وكرر روكفلر أنه، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أدركت المؤسسة الأمريكية أن نتائج الحرب، والتى نتج عنها تدمير شبه كامل لأوروبا بما فيها روسيا والجمهوريات السوفيتية، تتيح لأمريكا فرصة نادرة لسيادة العالم والهيمنة عليه، وهو ما تم رغم حالة الزخم والمنافسة الشيوعية لعدة عقود.
• • •
من هنا يمثل دونالد ترامب وصعوده السياسى، ودخوله التاريخ الأمريكى من أوسع أبوابه انفصالا كبيرا عما عرفته أمريكا خلال تاريخها السياسى. يكسر ترامب فى إدارته الثانية كل ما اتفقت عليه المؤسسة الأمريكية خاصة فيما يتعلق بدعمها وتشجيعها للعولمة بمعناها الصناعى والتجارى والمالى والابتكارى.
لم يكترث ترامب بما أصبح قيما سياسية أمريكية راسخة سواء فيما يتعلق باحترام نتائج الانتخابات، كما حدث فى رفضه نتائج انتخابات 2020 وتشجيعه لمناصريه على اقتحام مبنى الكابيتول لتعطيل تصديق الكونجرس على نتائج الانتخابات، وبعد ذلك عفوه العام والشامل على ما يقرب من ألف شخص شاركوا فى ارتكاب جرائم خلال عملية اقتحام الكونجرس فى السادس من يناير 2021. لم يكن ليتصور روكفلر والأستاذ هيكل أن يسخر ترامب من أهم حلف عسكرى أسست له واشنطن فى التاريخ، وهو حلف الناتو الذى يعتبره عديم الجدوى ويمثل عبئا على كاهل الأمريكيين. ولم يكن ليتصور روكفلر وهيكل أن رئيسا أمريكيا سيعصف بأسس وتوازن التجارة العالمية التى أسست لها بلاده وقادتها لأكثر من سبعين عاما بفرضه تعريفات جمركية انتقامية ومزاجية وانتقائية بما يخالف كل ما هو متفق عليه أمريكيا وعالميا. ولم يكن ليتصور روكفلر أن تقف بلاده إلى جانب روسيا حتى بعد غزوها المسلح لدولة جارة، وأن يجمعها بقيادة روسيا أكثر ما يجمعها بقادة بريطانيا وفرنسا وألمانيا. لم يتح القدر لروكفلر أن يرى رئيسا أمريكا يدمر أحد أذرع القوة الأمريكية الناعمة، والتى من خلالها تبسط المزيد من النفوذ والهيمنة من خلال مساعدات التنمية الأمريكية لدول العالم خاصة الثالث منه.
هل كان لهيكل أو روكفلر أن يتخيلا أن تجمع صحيفة «وول ستريت» المحافظة و«نيويورك تايمز» الليبرالية، على أن ترامب يهدد ويدفع بأمريكا إلى انهيار قد يكون من الصعب إيقافه قريبا؟
ما تشهده أمريكا، ومعها العالم، يمثل خروجا على النص الأمريكى المتفق عليه، والذى مهد وسهل من هيمنة أمريكا وقيادتها لنظام عالمى وضعت هى حدوده وملامحه واتجاهاته.