تاريخ أسود - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:45 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تاريخ أسود

نشر فى : الأربعاء 13 أغسطس 2014 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأربعاء 13 أغسطس 2014 - 8:00 ص

كتب الرسام فى مذكراته، كنا فى السجن نأكل الحشرات التى تتساقط علينا من سقف الزنزانة. حلمت أكثر من مرة بأننى آكل لحما بشريا. أحاول نسيان ما حدث، ولكن مازالت تطاردنى ذكريات تلك الأيام».

كان فان ناث Vann Nath يعيش على دخل بسيط يحصل عليه من كتابة لافتات ورسم لوحات تجارية. راح ذات يوم مع أقربائه إلى الريف لمساعدتهم فى حصاد الأرز. هناك فى الحقل، أطبقت عليهم قوات الخمير الحمر، حكام كامبوديا فى ذلك الحين، واعتقلتهم. ولم يعرف حتى يوم وفاته سبب اعتقاله. خصصوا له خلال وجوده فى السجن مساحة صغيرة، كمرسم ليرسم لوحات لشخصيات كبار رجال الدولة وكلها ما زالت حتى اليوم معلقة على جدران فى أحد متاحف العاصمة. لم تكن المساحة التى خصصت له بعيدة عن زنازين المساجين الآخرين ومواقع «توعيتهم»، حتى لا يفوته سماع صراخهم وهم يتلقون دورات التعذيب.

أفرج الجيش الفيتنامى عن ناث وغيره من السجناء المعتقلين فى السجن رقم 21 S عندما قامت فيتنام الشمالية بغزو كمبوديا واحتلال العاصمة بنوم بنه لإسقاط نظام الخمير الحمر، الفصيل الأشد تطرفا فى اليسار الماوى الأسيوى والأشد كراهية لنظام الحكم الشيوعى القائم وقتذاك فى كل من الصين وفيتنام الشمالية.

●●●

يوما ما سوف يولد مؤرخ تكون مهمته كتابة «التاريخ الأسود للعالم»، ما تعلمناه فى مدارسنا وجامعاتنا وما تناقلناه من سير أكثره أبيض ناصع البياض، كتبته النخب الحاكمة والجيوش المنتصرة والرجال الأقوى. هناك تاريخ آخر سوف يسجله هذا المؤرخ الذى سيولد يوما ما. حينذاك سوف يعرف الناس الكثير عن الظالمين وقساة القلوب والفاسدين. سيكون هناك سجل يسجل للتاريخ والخلود أعمالهم الوحشية ضد معارضيهم، وأحيانا ضد شعوبهم كافة. أتعشم أن يأتى فى صدارة هذا السجل سيرة «الخمير الحمر» وتفاصيل تجربتهم الرهيبة فى حكم كمبوديا فى الفترة من 1975 إلى 1979.

●●●

جرت محاكمة، بل محاكمات، اكتملت واحدة منها فى نهاية الأسبوع الماضى حين أدان القاضى المتهمين نون تشيا Nuon Chea وعمره 88 عاما، و خيو سامفان Khieu Samphan وعمره 83 عاما وحكم عليهما بالسجن المؤبد. يلقب تشيا بالأخ رقم 2، منذ أن كان الرجل الثانى فى حكومة الخمير الحمر بعد الزعيم الأشهر بول بوت الذى كان يلقب بالأخ رقم 1. ولما كانت النخب الحاكمة القائمة لا تخرج فى حقيقتها عن كونها اشتقاقا من نخب سابقة، فقد أدين المتهمان بتهم «ثانوية» عديدة، لم تتعرض المحاكمة لقضايا مثل قضية إبادة أكثر من 2 مليون نسمة، أى حوالى ربع سكان كمبوديا فى أقل من 4 سنوات، أو لقضية ارتكاب جرائم حرب وتعذيب المدنيين الأبرياء وجرائم ضد البشرية وتعريض كرامة الإنسان للإهانة وجرائم قتل عمد.

●●●

لم يلق الحكم رضاء الأمم المتحدة التى تكفلت بالإنفاق على إجراءات تقاضى لمدة تزيد على عقدين أو ثلاثة عقود، وقيل أن ما أنفق تجاوز مبلغ 200 مليون دولار. ولم يلق رضاء منظمات حقوق الإنسان العالمية ولا كبار الشخصيات فى أوروبا والولايات المتحدة. كان سرا ذائعا فى الأمم المتحدة، كما فى العاصمة الكمبودية بنوم بنه، كما فى عواصم أخرى فى الهند الصينية، أن كثيرين فى الحكم وأجهزة الإدارة وفى سلك المحاماة والقضاء الكمبودى استفادوا من الإطالة المبالغ فيها فى إجراءات المحاكمات. خرج من يقول إن الهدف من هذا التمديد كان تفريغ ذاكرة الناس من قصص الإرهاب والترهيب وفظائع حكم الخمير الحمر وإثارة الملل فى نفوسهم تمهيدا لكتابة تاريخ غير أسود. وبالفعل خرج رئيس الحكومة Hun Sen بنداءات متكررة يطلب فيها من جميع الأطراف الدولية والمحلية مساعدته فى إعادة لم الشمل فى «العائلة الكمبودية»، زاعما أن لم الشمل لن يتحقق إلا بأن «ينسى» الجيل القديم ما حدث، وبأن يطلع الجيل الجديد على تفاصيل الفظائع التى ارتكبت فى «العصر الأسود» عصر حكم الخمير الحمر.

●●●

لم أتفاجأ بشهادة السجين «الأخ رقم 2» الذى شغل منصب نائب رئيس الدولة فى عهد الخمير الحمر، حين قال «أنا مسئول معنويا فقط». أما الأخ رقم 3 وهو الأشهر بين القادة المكلفين بتعذيب المعتقلين من المعارضين والمنشقين، فأعرب عن أسفه مؤكدا أنه لم يكن سوى منفذا للأوامر.. ولكن ما أثار فى داخلى أعمق مشاعر الحزن وحرض عواطفى على الانفعال، كانت عبارة وردت فى الشهادات تقول إن نظام الخمير الحمر كان يهدف إلى «تدمير الحياة الحضرية»، أى القضاء على المدن والاستغناء عن وظائفها، و»إعادة كمبوديا إلى نقطة الصفر لنشرع فى بناء مجتمع فلاحين مثالى».

وهو بالفعل ما حاولوا تنفيذه فى 1975 عندما جرى إخلاء العاصمة والمدن الأخرى بالقوة، وهتك نسيجها الاجتماعى وإبادة مليونين لن تحتاج لهم الدولة الجديدة.

●●●

ورد فى الأنباء الصحفية يوم صدور حكم المحكمة بالسجن المؤبد على الزعيمين الكمبوديين، أن سفارة الولايات المتحدة فى العاصمة الكمبودية رحبت بالحكم. تمنيت وأنا أقرأ بيان السفارة، أن يتضمن، إلى جانب الترحيب بالحكم، اعتذارا لشعب كمبوديا عن الخطأ المريع والمتعمد، الذى ارتكبه السيد هنرى كيسنجر، حين أمر الطائرات الأمريكية بقصف العاصمة الكمبودية لمدة أسابيع متتالية ولم تكن كمبوديا طرفا فى الحرب الفيتنامية، وهو القصف الذى أدى على الفور إلى فوضى شاملة متعمدة فى أنحاء الدولة تولى السلطة على إثرها مباشرة الخمير الحمر.

●●●

فى الصين وفى اليابان حركات تطالب بفتح سجلات التاريخ الأسود. وفى أمريكا اللاتينية تصعد الآن موجة جديدة من موجات كشف المستور عن فظائع ارتكبتها نخب حاكمة.

لم تعد الشعوب تقتنع أو تكتفى بتاريخ واحد.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي