ــ 1 ــ
... ويتجدد الحديث حول اللغة العربية، وحضورها الآن، والمشكلات التى تحيط بتعليمها وتقف عقبة فى سبيل شيوع إجادتها وإتقانها كما يجب بين أبنائها، والكثير يتحدث بغير علم ولا إحاطة، ولا فهم ولا قراءة، فيتهم اللغة العربية فى ذاتها بالجمود والتحجر وهذا وهمٌ!
فالبحث عن موطن الداء لا يكون بالدعوة إلى هدم بنيان أصيل ومرن ومتطور بذاته، ولا تظهر تجسداته ولا تعيناته إلا فى ممارسات المتحدثين بهذه اللغة، تواصلا وإبداعا، وبدون هذا الالتفات إلى الفارق بين اللغة العربية فى ذاتها، كنظام ونسق، وبين من يمارسها، يصبح الأمر كله عبثا فى عبث!
ــ 2 ــ
وكلما تقدم المرء فى العمر، وتراكم لديه بعض خبرةٍ ومعرفةٍ بتفاصيل وأسرار وجماليات لغتنا العربية، أدرك أنه رُزق فعلا نعمة كبيرة جدا بأن يكون مفتاح التواصل بينه وبين هذا العالم (فى هذا العالم)، من خلال هذه اللغة العظيمة (دون أن يعنى ذلك أبدا اشتمام أى دعوات سخيفة أو جاهلة أو متطرفة بالانغلاق والانكفاء عليها، والاكتفاء بها، من دون السعى الحثيث والجدى فى تعلم واكتساب لغة أو لغات أخرى؛ فهذا مما تأباه قوانين الحضارة والتطور الآن).
وأعود إلى النحو العربى الذى كلما أعدتُ النظر فى نشأته وتكوينه وتطوره وصولا إلى هذا البنيان المحكم المتماسك المترابط؛ بكامل هندسيته المنمقة، ومعقوليته التى تعود إلى فلسفةٍ عميقة ورؤية للعالم، وتصور للكون والحياة، وجدت الكثير مما يستحق الذكر والتنويه والاستعادة!
وسيُذهل الباحثُ أو المعنى بتتبع تاريخ هذا العلم، وتطوره، عبر ما يزيد على الألف سنة، من هذه القدرة الفذة على الاستقراء والتأمل والاستدلال، وصولا إلى إقامة هذا البنيان الشامخ الأصيل الذى طُمر جزءٌ كبير منه للأسف تحت ركام التعليم الردىء، والإفساد المتعمد للملكة اللغوية.
وكان المرحوم د.شكرى عياد، صاحب واحد من أبرز وأهم الاجتهادات العلمية المعاصرة فى النظر إلى جماليات لغتنا العربية، اعتمادا على فهم وتوظيف إمكانات النحو العربى، وثرائه المدهش فى تركيب الجملة والخيارات والبدائل التى يمنحها للتعبير عن المعنى بأدق اختيار تركيبى للجملة بمرونة مدهشة وأساليب متنوعة وغايات دلالية دقيقة، تفرِق بين الغاية التوصيلية المباشرة، والغاية الجمالية التصويرية الإيحائية.. كان يرى النحو العربى «قمة الفلسفة العربية»، و«قمة الفن العربى».. وأنا أرى معه ذلك تماما!
ــ 3 ــ
حينما أستعيد تجربة دراستى «بمفردى» للنحو، وتعلمى إياه نظرا وتطبيقا، أقول إن العيب دائما كان فى مناهج تدريسه، وفيمن يقومون على تدريسه، ولم يكن العيب يوما فيه كعلم وفن وطريقة تفكير، ونظامٍ عقلانى مثير للإعجاب والتقدير بين نظم وأنساق التراكيب اللغوية التى اخترعها الإنسان فى لغاته ولهجاته.
من أجمل وأدق ما قرأت فى تقدير هذا العلم الشريف؛ علم النحو العربى، باعتباره «إبداعا» وطريقة نظر وميزانا حساسا لإبداع المعنى والدلالة لا «قواعد صماء جافة» بلا روح ولا رواء، ما قاله المرحوم الأستاذ الدكتور مصطفى ناصف:
«فالنحو ليس موضوعا يحفل به المشتغلون بالمثل اللغوية، والذين يرون إقامة الحدود بين الصواب والخطأ، أو يرون الصواب رأيا واحدا، النحو مشغلة الفنانين والشعراء، والشعراء أو الفنانون هم الذين يهتمون بالنحو، أو هم الذين يبدعون بالنحو، فالنحو إبداع»، ويعلق عليه المرحوم د. محمود الطناحى بقوله:
«نعم النحو إبداع، ولا يعرف هذا إلا من قرأ القرآن الكريم قراءة تبصُر وإحسان، ثم أطال النظر فى كلام العرب: نثرها وشعرها، وصبر نفسه على قراءة الكتب والسير فى دروبها، وحمل تكاليف العلم وأعبائه».
(مقالات الدكتور محمود الطناحى، فصل النحو والحمى المستباح)
ــ 4 ــ
تتلاقى النظرة السابقة للنحو العربى وإدراك قيمته وجماليته معا؛ مع نظرات منهجية معاصرة قدمها مستشرقون أجلاء حول قيمة «النحو» كنظام محدد لتركيب الجملة العربية، وكاشف عن عبقريتها وإحكامها، وعبقرية استنباط هذا النظام وتقعيد قواعده، وتقنين أحكامه، كما ظهرت فى أول محاولة أصيلة لذلك على يد سيبويه فى كتابه المذهل «الكتاب» الذى أعده كتابا فى النظر وطرائق الاستدلال والمنهج قبل أن يكون كتابا فى النحو، وأبوابه وتفريعاته... إلخ.
اقرأ معى ما يقوله مؤلفا كتاب «تراث الإسلام» (كليفورد بوزورث وجوزيف شاخت، سلسلة عالم المعرفة، ترجمة حسين مؤنس وإحسان صدقى العمد)، اقرأ بتمعن:
«أما تجويد نظرية النحو فقد بلغ ذروته من قبل فى نفس ذلك القرن فى كتاب سيبويه، وأدَت الحاجة العلمية إلى ظهور إنتاجٍ غزير فى النحو بقى مميزا للدراسات النحوية. ولما كانت هذه الدراسات تعتمد أساسا على الأسلوب الوصفى، فإن هذا العلم بقى علما صعبا، ولكنه كان مع ذلك ميدانا عظيم الأثر لتدريب أهل الأدب والعلم.
وأدى إتقان اللغة العربية، وتناولها بطريقة فنية، بوصفه الشرط الأول لكل إنتاج أدبى ذى قيمة، إلى تأكيد تفوق اللغة العربية، وتبوئها المكانة الأولى بين اللغات التى تتكلمها الشعوب الإسلامية. فعلم النحو وتصنيف المعاجم مدينان بصفة خاصة لعبقرية اللغة العربية، والظروف الخاصة التى رافقت تطورها فى الجاهلية والإسلام».
ــ 5 ــ
إن قوة اللغة (أى لغة) من قوة أهلها ودورهم الفاعل فى التاريخ، ولذلك قال علماء اللغة إنها مرآة مجتمعها، تعكس حاله المعرفى، وعلاقات إنتاج العلم وأدواته فيه، وما غلبة اللغات الأجنبية علينا إلا لغلبة مجتمعاتها وتفوقها علميا وصناعيا، وفى كل مجال يقابل مجالات تراجعنا التى تتكاثر يوما بعد يوم، رغم ما ندارى به هوان تخلفنا من قشور الحضارة لا لبابها أو جوهرها الخلاق، والنتيجة مباهاة الجاهل بلغته برطان لغة غيره، واللجوء إلى العناوين الأجنبية، ناهيك عن اللافتات ولغة الإعلام التى تخترقها اللغات الأجنبية دون مقاومة، وذلك بسبب ضعف مناعة الجسد اللغوى العربى الذى تناوشه سهام التغريب، ثم العولمة حاليا، من كل جانب.. (ولهذا حديث آخر).