كنت فى السادسة من عمرى عندما أنجبت كل من أمى وشقيقتى مولودا جديدا، وكان فى الحالتين أنثى. الأكبر فيهما بشهور قليلة كانت شقيقتى الجديدة وسميت نبيلة، والأخرى اختاروا لها اسم أميرة. بما أننى لم أكبرهما بسنوات عديدة تحدد لى دور. تقرر لى فى السنين الأولى أن نلعب سويا ومعنا مشيرة الشقيقة الأكبر لأميرة بسنتين، وفى سنين المراهقة أن ندرس ثلاثتنا سويا فى غرفة درس واحدة فى بيت شقيقتى حين كان البيت فى شارع الفلكى وبعده فى الدقى وبعدهما فى شارع خيرت.
• • •
أذكر أنه لم يمض علينا صيف لم نقض بعضا منه فى مصيفنا بضاحية سيدى بشر. هناك نضج الأطفال ليصيروا فى عرف الكبار فى العائلة شبابا. كنا نحن الأربعة شلة قوية التضامن. لم يخف على أحد منا ما يفعله أو ينوى فعله الآخرون. تلقينا معا على يد الدكتور فريد زوج شقيقتى، دروسا نحو فهم متعمق بعض الشىء لعوالم الحضارة الغربية والسلوك الاجتماعى المختلف نوعا ما عن السائد ودروسا فى علوم الجغرافيا والموسيقى الكلاسيكية. بفضل هذه الدروس وأغلبها جرى فى البيت وبعضها فى معمل الموسيقى بالطابق الأعلى فى مبنى كلية التجارة، أقول بفضل هذه الدروس قبلت وأنا فى الثامنة عشر التكليف بمهمة الإشراف على غرفة الموسيقى الملحقة بالمكتبة الأمريكية الواقعة فى جاردن سيتى إلى جانب عملى كمتدرب فى أقسام أخرى بالمكتبة. تخرجت فى الجامعة بعد عام من بدء العمل فى المكتبة واخترت التقدم لامتحان الملحقين الدبلوماسيين. جرى التحضير له والانتهاء منه خلال عامين تخللتهما حرب السويس.
• • •
كتبت هذه المقدمة الطويلة لسبب ولحاجة. أما السبب فهو أن نقاشا أكاديميا هاما يدور هذه الأيام حول موضوع الحنين للماضى، وقد لاحظت أننى عندما أكتب الآن عن فترة عشتها مع «شلة» العائلة كنت ألجأ لثلاثتهن أو إحداهن لأتأكد من أننى وصفت بالدقة اللازمة وقائع الماضى الذى أكتب عنه كما عشته، كانت النتيجة إن اهتم ثلاثتهن بما أكتب أكثر مما توقعت، خطر لى خاطر أو سؤال. أليس من حق كل منهن أن أنوه بدورهن والمساعدة التى قدمنها؟ هذا عن السبب أما عن الحاجة إلى كتابة هذه المقدمة فتعود إلى اكتشافى أننى كثيرا ما كتبت عن ماضٍ عشته بنفسى حرفيا ناسيا أو متجاهلا أن آخرين عاشوا هذا الماضى من بعيد أو من قريب ولهم رأى فيه، ساهموا فى صنعه، أثروا فى مجراه أو تأثروا به. لم يخطر لى أن أسالهم كيف تلقوا أخبار وتفاصيل ماضٍ عشته بدونهم فى غربة طويلة وإن متقطعة. رحلت عن البلاد وبدأت تغيب عن كل منا تفاصيل كثيرة عن ماضٍ يجمعنا ولم نصنعه مجتمعين كعادتنا.
• • •
استجابة للسبب وتلبية للحاجة طلبت من كل من نبيلة وأميرة وقد تجاوزتا الثمانين من العمر كتابة ما يتذكران عن سنوات كنت فيها فى الخارج وكانت حافلة بالمخاطر والمشكلات، وكيف تلقت العائلة وبخاصة أبى وأمى الصدمات والتغيرات والأزمات التى واجهتنى وعائلتى الصغيرة خلال أيامى الأولى فى العمل الدبلوماسى. إليكم ما كتبته نبيلة بأسلوبها وكلماتها:
«أنت يا أخويا يا حبيبى نشفت دم الأسرة ثلاث أو أربع مرات. أول مرة وأنت فى سن المراهقة حين ذهبت فى رحلة مع الجامعة إلى غزة وسحبك فضولك أنت ورفاقك إلى رؤية ما يحدث وراء الحدود. من هنا كانت المصيبة الكبرى بالنسبة للعائلة الكريمة إذ نزل الخبر على الوالدة وكأنها النهاية. بكاء مستمر وخاصة فى حضور وفضول الصحفيين الذين توافدوا على البيت فى شارع سامى فور إذاعة خبر الاختطاف. أما الوالد فكان دائم الدوران على أى معلومات مفيدة من جهات عليا.
المرة الثانية وكنت أنت وأسرتك فى الصين ملحقا سياسيا فى وزارة الخارجية المصرية وجاء وقت المرور على مصر فى طريقكم إلى مقر عمل جديد فى روما. كنا جميعا فى انتظار رؤياكم وكان معاكم ضيف جديد وهو ابن أربعة شهور، وإذا بباب الشقة يخبط وتفتح أميرة الباب ومن خلفها وقف والدنا وأصعب خبر يسمعه أن الطائرة سقطت وبها أغلى الحبايب.
المرة الثالثة وكنتم فى روما. مرت أيام كانت صعبة علينا قوى لما سمعنا إن أنت مريض وتعبان والدكاترة طلبوا إجراء عملية جراحية كبيرة لاستكشاف مصدر الألم اللى بتشكى منه وإجراء جراحة فى المعدة إن لزم الأمر.. وإحنا فى مصر بعيد عنك مش عارفين نعمل إيه. لكن بعد كده اتطمنا عليك وسمعنا من زملائك إن والدة زوجتك لبست الفرو بتاعها ونزلت تشحت فى الشارع. الله أعلم دى كانت عندهم عادة لطلب الشفاء من الله، والحمد لله استجاب وطلع الأمر بسيط، ولكن بعد ما نشفت دمنا.
المرة الرابعة كانت فى التسعينيات وكنت فى مصر وجاتلك حاجة فى القلب على غفلة ونقلوك على مستشفى مصطفى محمود فى المهندسين وكان يوم جمعة ولا فى دكتور موجود. اتصلنا بالسيد حسنين هيكل وشرحنا له الوضع. جه على الفور هو وابنه كان طبيبا. اتصلا بالأطباء وحضروا. وطبعا إحنا كانت أعصابنا ما فيش خالص لحد ما ربنا طمنا وبعتوا جابوا حقن. والحمد لله ربنا يديك الصحة».
• • •
إليكم الآن ما كتبته أميرة ابنة أختى، والأصغر من خالتها نبيلة بأشهر معدودة.
«الحقيقة هم ثلاث ضربات. الضربة الأولى بتاعة غزة. كنت صغيرة لقيت بيتنا وبيت نينة مقلوب، وبيقولوا مسكو جميل فى إسرائيل. أنا كان مجرد ذكر اسمها بيعمللى هلع. وتليفونات بقى من العيلة والمعارف والدنيا مقلوبة، وكله بيدعى ربنا. وأذكر إن الجرايد ذكرت الحادث وأعتقد إنه نزلك صورة فى أحد الجرايد. وكلنا فاكرين جدى الله يرحمه لما كان يقفلك فى ركن البلكونة كل ليلة وأنت لسه فى الجامعة يستناك ويدخل يجرى علشان يقولنا أنك وصلت.
الحكاية التانية، لما سافر خالى العزيز للهند ملتحقا بالسفارة المصرية وهو دون الثانية والعشرين. وبعد عدة أشهر أرسل لنا صورة لفتاة جميلة وكانت ابنة السفير السورى. يشاء ربك أن تعلن الجمهورية العربية المتحدة ليتمكن من الزواج بها. وكأن الوحدة تمت لإتمام هذا الزواج. انتقل الخال مع زوجته إلى الصين حيث أنجبت الحفيد والذى سمى باسم سمعته للمرة الأولى.. العزيز ولد الخال سامر.
الضربة الثالثة: «كنا فى انتظار عودة الغالى وزوجته والحبيب سامر من الصين فى طريقهم إلى إيطاليا. رن جرس الباب فتحت لقيت رجلين وبيسألوا دا بيت فلان.. أيوه يا فندم.. حضرتك إحنا مندوبى شركة طيران.. وبنبلغكم أن الطائرة وقعت فوق الهند، وإن جميع الركاب بخير.. وما أدراك ما حصل.. خوف ورعب ودعاء. وبعد عدة أيام وصلت العائلة الصغيرة وهم فى حالة يرثى لها. موقف مهما حكيت لا يمكن تخيله…».
استطردت نبيلة قائلة: «إن نسيت مش ممكن أنسى اللى حصل بعد نص الليل فى المستشفى. كنا فى انتظار نتائج التحاليل ووسط الإشاعات وأعصابنا تعبانة، دخل علينا الله يكرمه قسيس سأل عن غرفتك وعن أقرب الأقرباء. دخل عليك وقعد جنبك فى الغيبوبة. فضل يقرا ويقرا ويصلى . وأنت مش داريان. كلنا كنا مستغربين.. بعد ما خلص رحت سالته مين بعت حضرتك. ما ردش علينا خالص غير إن ربنا معانا وسوف ينجو المريض. يظهر حد من أصحابك طلب منه زيارتنا عندما بلغه سوء حالتك. المهم ربنا نجاك ونجانا كلنا معاك».