يسبب النظر إلى تطور موقف وزيرة الخارجية الأمريكية من ثورة مصر، ومن رؤيتها لدور المجلس الأعلى للقوات المسلحة الكثير من الدهشة. وتنبع الدهشة من تذبذب موقف الوزيرة الأمريكية مديحا وانتقادا للمجلس العسكرى.
فقد ألقت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون، مساء يوم الاثنين الماضى، خطابا مهما عن ثورات العرب فى الحفل السنوى للمعهد القومى الديمقراطى NDI. وفى خطابها الشامل عن ثورات العرب انتقدت كلينتون المجلس العسكرى بصورة غير مسبوقة مما مثل مفاجأة للكثيرين ممن اعتادوا على سماع كلينتون تتكلم بصورة إيجابية عن المجلس العسكرى.
الخطاب جاء قويا للغاية، وتم اختيار كل عباراته وكلماته بعناية فائقة. واستغلت الوزيرة كلينتون فرصة إلقاء الخطاب لكى تسلط الضوء على قضايا مهمة ترتبط بدور الولايات المتحدة فى الربيع العربى والتغيرات التى يشهدها الشرق الأوسط. قضايا مهمة مثل معضلة المصلحة الأمريكية والتغير الديمقراطى فى الشرق الأوسط؟ وهل لدى واشنطن سياسات متغيرة بها الخصوص تتغير طبقا لتغير الدول؟ وماذا يحدث إذا ما فازت فى الانتخابات أحزاب دينية تعارض جذريا سياسيات واشنطن؟ وما هو دور الولايات المتحدة فى المستقبل؟
إلا أن ما تعلق بمصر وبالمجلس العسكرى كان الأكثر أهمية فى خطاب كلينتون، وذلك طبيعيا نظرا لأهمية مصر، وأهمية ثورتها على مستقبل الشرق الأوسط كله.
واختارت كلينتون أن تضع المجلس العسكرى فى خانة واحدة مع النظم الحاكمة المقاومة للتغيير وللحرية فى سوريا واليمن. وقالت كلينتون «الحقيقة هى أن أكبر مصدر لعدم الاستقرار فى الشرق الأوسط اليوم ليس المطالبة بالتغيير. إنما هو رفض التغيير. وهذا صحيح بالتأكيد بالنسبة لسوريا حيث دفعت حملة الإجراءات الصارمة المتخذة ضد الاحتجاجات السلمية الصغيرة آلاف الناس للنزول إلى الشوارع والآلاف الآخرين إلى الهرب عبر الحدود. وصحيح فى اليمن، حيث نكث الرئيس صالح بصورة متكررة بوعوده للانتقال إلى الديمقراطية وقام بقمع حقوق وحريات مواطنيه. وهو صحيح أيضا فى مصر. وفى حال بقيت القوة السياسية الأقوى فى مصر ممثلة فى مسئولين غير المنتخبين، فإنهم يكونون بذلك قد زرعوا بذور الاضطراب للمستقبل، ويخسر المصريون هذه الفرصة التاريخية».
هذه اللغة الحادة تشمل هجوما واضحا على المجلس العسكرى لا يعرف الهدف من ورائه. يرى بعض الخبراء فى واشنطن أن كلينتون بحديثها أمام المعهد القومى الديمقراطى، وهو المعهد الذى لم يحصل بعد على تصريح مزاولة أى أنشطة داخل مصر، رغم قيامه بتأسيس فرع له فى القاهرة، إضافة لمكتبين آخريين فى الإسكندرية والصعيد، طبيعيا، ولم يكن أمامها إلا الهجوم على المجلس العسكرى رغبة منها فى تذكير المجلس بضرورة السماح للمعهد، إضافة للمعهد الجمهورى الدولى، بالعمل بصورة قانونية فى مصر.
ومن المعروف أنه لا تخلو أى مناقشة تجمع المسئولين الأمريكيين بنظرائهم المصريين من التطرق إلى الجدل حول نشاط المعهدين وعدم الترخيص لهما بالعمل. وبسبب العلاقات الوطيدة للمعهدين بالعديد من أعضاء الكونجرس الجمهوريين والديمقراطيين، يضغط الجانب الأمريكى دائما متحججا بأن المعهدين بما لهما من اتصالات داخل الكونجرس، سيساعد جهود الإدارة فى إسقاط المشروطية غير المسبوقة والتى فرضت على مشروع القرار رقم 1601 المتعلق بالمساعدات العسكرية المقدمة لمصر العام القادم وقيمتها 1.3 مليار دولار.
وتتسق لغة الوزيرة كلينتون الحادة مع ما انفردت به صحيفة الشروق منذ أسبوعين نقلا عن مصادرها داخل الكونجرس من «أن وزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون تقف بصورة شخصية وراء إضافة البنود المتعلقة بالمشروطية فى مشروع قرار مجلس الشيوخ بخصوص ميزانية عام 2012، والذى يقضى بفرض شروط متعددة على تقديم المساعدات العسكرية لمصر، ويقترح كذلك إمكانية تحويل أجزاء من المساعدات العسكرية لبرامج المساعدات الاقتصادية وبرامج دعم الديمقراطية».
ومشروع القرار المقدم من السيناتور الديمقراطى (حزب إدارة أوباما) باتريك ليهى (ولاية فيرمونت)، وهو من الأعضاء المقربين من وزيرة الخارجية، يثير التساؤل حول مغزى كلينتون من التصعيد أمام المجلس الأعلى.
خلال الشهور التسعة الماضية، لم تستخدم كلينتون سوى لغة المديح والثناء لوصف ما كانت تراه دورا مهما يقوم به المجلس العسكرى فى تشكيل مستقبل مصر.
ففى لقاء لها مع وكالة أنباء رويترز الشهر الماضى، أكدت كلينتون أن الجيش المصرى يسير وفق الجدول الزمنى الذى وضعه لنقل السلطة. وقالت إن الجيش يعمل على تحقيق العديد من المهام الكبيرة فى وقت واحد، وأشارت إلى أن الجيش المصرى يقوم بما ينبغى القيام به فى ظل عملية تتعقد على المدى المنظور. وأوضحت كذلك أن رفع حالة الطوارئ أمر مطلوب غير أن الجيش يحاول فى ظل عدم وجود قوة الشرطة وقف عبث المجرمين بالشارع يوميا. وأضافت أن الجيش وجد نفسه مضطرا لاتخاذ قرار بعدم رفع حالة الطوارئ لحين التوصل إلى تحقيق الأمن فى الشارع.
وقبل ذلك، وفى لقاء لكلينتون مع وزير الخارجية المصرى محمد كامل عمرو يوم 28 سبتمبر فى واشنطن، ذكرت الوزيرة «أنا أقدر عمل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذى كان مؤسسة للاستقرار والاستمرارية. يتطلع الشعب المصرى إلى المجلس الأعلى لدعم عملية التحول وضمان سير الانتخابات بطريقة إيجابية توفر الشفافية والحرية والنزاهة». وأكدت الوزيرة كلينتون «نحن ضد المشروطية، سوف نعمل جاهدين مع الكونجرس لإقناعه بأن هذا ليس هو النهج الأفضل. نحن نعتقد أن العلاقة الوطيدة بين الولايات المتحدة ومصر هى أمر بالغ الأهمية لكل منا. إننا نؤيد الانتقال الديمقراطى، ولا نريد القيام بأى شىء يتسبب بشكل ما أو آخر فى إثارة التساؤلات حول علاقتنا أو دعمنا».
ويظهر كل ما سبق أن الإدارة الأمريكية تتبع مع المجلس العسكرى السياسة نفسها التى كانت تتبعها مع نظام الرئيس السابق حسنى مبارك فى إرسال إشارات متناقضة. إلا أنه من الواضح أنه مهما جرى، لن تجرؤ واشنطن على السماح بتهديد علاقاتها الخاصة مع من يحكم مصر.